السيد ولد اباه
من المسلمات القارة في الدراسات الاجتماعية والسياسية، أن التحول الديمقراطي يأتي نتيجة طبيعية لنمو اقتصادي ناجح، يفرز طبقة وسطى واسعة تكون العمود الفقري للإصلاح السياسي وقوة دفعه الضرورية.
وتستند هذه لأطروحة على شواهد جلية من التجربة الغربية، حيث بدأت النظم الديمقراطية من أوربا الغربية والولايات المتحدة، قبل أن تتوسع الدائرة لتشمل أوربا الجنوبية في السبعينات وأوربا الشرقية في التسعينات التي انهارت فيها النظم الشمولية الشيوعية.
وغالبا ما يفسر قصور البلدان العربية في الحريات السياسية من هذا المنظور أي التخلف الاقتصادي والعجز عن المرور من الاقتصاد الريعي التوزيعي إلى الاقتصاد الإنتاجي الذي يخلق معادلة اجتماعية ملائمة للمسلك الديمقراطي.
بيد أن ثلاث تجارب عالمية كبرى تشكل نقطة اختبار لهذه المعادلة الرائجة (تناسب النمو الاقتصادي والحريات السياسية والية التنظيم الديمقراطي)، وتسمح بمراجعة جذرية لهذه القاعدة المهيمنة في الفكر السياسي المعاصر.
أولى هذه التجارب هي النموذج الصيني الذي يستأثر هذه الأيام باهتمام عالمي واسع، بما يحمله من خصوصيات فريدة هي الجمع بين الحيوية الرأسمالية العالية والأحادية الحزبية المغلقة.
فأغلب التحليلات ذهبت في نهاية الثمانينات الى أن التجربة الشيوعية الصينية ستعرف نفس المال الذي عرفته التجربة السوفيتية التي انهارت اثر الإصلاحات التي تبناها آخر رئيس للاتحاد السوفيتي المتفكك (غورباتشوف). وقد شكلت أحداث ساحة تنيامن مؤشرا على هذا التحول المرتقب، بيد أن الصين شهدت تطورات مغايرة منذ مطلع التسعينات تمحورت حول الإصلاح الاقتصادي الشامل باعتماد النظم الرأسمالية الأكثر انفتاحا مع الحفاظ على أحادية الحزب ودوره المهيمن على الساحة السياسية.
سمح هذا النجاح بتبوء الصين المركز الرابع في الاقتصاد العالمي بالحفاظ على نسبة نمو مرتفعة تجاوزت العشرة في المائة افرزت طبقة رأسمالية شديدة الثراء مندمجة في المنظومة الاقتصادية للعولمة. ويجدر التنبيه هنا الى أن هذه الطفرة المثيرة قد قامت على إشراك النخب العلمية والتكنوقراطية التي قبلت بتأجيل الإصلاح السياسي مقابل دفع المسار التنموي وفتح أبواب البحث العلمي والأكاديمي، وافتكت هوامش حرية تعبير وتفكير محدودة في هذا النطاق. وباعتبار أن اقتصاد الموجة التقنية الثانية يقوم على المعرفة، فإن النخب العلمية شكلت إحدى القوى المجتمعية المستفيدة من التحول الرأسمالي، الذي عرفته الصين في الأعوام الأخيرة. وتبدو التجربة الصينية الآن مستقرة في خصوصيتها المذكورة، ولم تعد تتهددها نوازع الفتنة والفوضى التي جرفت التجارب الشيوعية في أوربا الشرقية التي انتكست أساسا لأسباب اقتصادية (التخلف العلمي والتنموي).
أما النموذج الثاني الذي تقف عنده فهو التجربة اللاتينية الأمريكية المتميزة التي تتمثل خصوصيتها في انبثاق أنظمة شعبوية ثورية راديكالية من انتخابات ديمقراطية شفافة ونزيهة، مما يفند الاعتقاد السائد بأن الطبقات البورجوازية المندمجة في المنظومة الاقتصادية الليبرالية هي المستفيد من الحراك الديمقراطي. فهذه البلدان التي عرفت في السبعينات اعتي الديكتاتوريات العسكرية تمكنت في الثمانينات من استنبات النظم الديمقراطية الحرة من خلال عقد صفقة ناجحة بين المؤسسة العسكرية الحاكمة والقوى السياسية المناوئة لها.. بيد أن تجارب الحكم الديمقراطي الأولى فشلت في إحداث التغيير المجتمعي المنشود، بالنظر لارتباط النخب السياسية بشبكات الفساد المالي والإداري المتحكمة في الاقتصاد المخصخص في ظرفية تحررت فيها الدولة من أعباء تسيير القطاع العام كما تخلصت من وظائفها الرعوية الادماجية، مما انعكس سلبا على الأوضاع المعيشية للسكان.
وفي السنوات الأخيرة، افرز الحقل السياسي قوى جديدة من خارج مجتمع النخبة الكلاسيكية، تمحورت حول ديناميكيات العمل الأهلي ونضالات الأقليات القومية وحركات العولمة البديلة وتشكيلات اليسار الجديد.
وقد تمكنت هذه الحركات الاحتجاجية في البرازيل من إقالة الرئيس فرنادو كولور دملو المتهم بالرشوة، ومن إطاحة فجيرو في البيرو، وفرناندوو لارا في الارجنتين.وشهدت الاكوادور وبوليفيا حالات مماثلة بحسب الاتجاه ذاته، اي انتفاضة الشارع المعبأ من القوى الاجتماعية الجديدة ضمن ضوابط الآليات المؤسسية الديمقراطية.
وقد أصبحت اغلب بلدان أمريكا الجنوبية محكومة اليوم من هذه القيادات اليسارية القومية التي تتبنى أكثر المفاهيم الثورية الراديكالية برفض المنظومة الرأسمالية والن هج التنموي الذي تقوم عليه. وأهم هذه التجارب هي تجربة لولا داسيلفا في البرازيل وهيغو تشافيز في فنزويلا ون ستور كرشنر في الأرجنتين.
أما النموذج الثالث الذي نكتفي بالإٌشارة إليه في هذه الحيز فهو التجربة الإفريقية التي كنا توقعنا عندها في مناسبات سابقة. ويتعلق الأمر بتجارب إصلاح سياسي وتداول سلمي على السلطة، أثبتت نجاعتها في سياق متأزم، كانت فيه الآلية الديمقراطية مخرجا حتميا من حالة الفتنة الأهلية والتفكك الشامل التي شهدتها اغلب بلدان إفريقيا جنوب الصحراء بعد نهاية الحرب الباردة. فالنظام الديمقراطي من هذا المنظور لم يكن الثمرة الايجابية لمسار تنموي ليبرالي ناجع، بل تجسيد لصفقة عصية بين فاعلين سياسيين (هم في الغالب من زعامات الطوائف والقوميات وقادة العصابات والمليشيات)، للخروج من حالة الصراع المسلح والفتنة الأهلية المدمرة، وقد أثبتت الآلية الديمقراطية نجاعتها في تحقيق هذه النقلة من الصدام العنيف الى الصراع السلمي على السلطة، بدلا أن تكون عامل تأجيج للفتنة والصراع كما ينظر الكثيرون.
من المسلمات القارة في الدراسات الاجتماعية والسياسية، أن التحول الديمقراطي يأتي نتيجة طبيعية لنمو اقتصادي ناجح، يفرز طبقة وسطى واسعة تكون العمود الفقري للإصلاح السياسي وقوة دفعه الضرورية.
وتستند هذه لأطروحة على شواهد جلية من التجربة الغربية، حيث بدأت النظم الديمقراطية من أوربا الغربية والولايات المتحدة، قبل أن تتوسع الدائرة لتشمل أوربا الجنوبية في السبعينات وأوربا الشرقية في التسعينات التي انهارت فيها النظم الشمولية الشيوعية.
وغالبا ما يفسر قصور البلدان العربية في الحريات السياسية من هذا المنظور أي التخلف الاقتصادي والعجز عن المرور من الاقتصاد الريعي التوزيعي إلى الاقتصاد الإنتاجي الذي يخلق معادلة اجتماعية ملائمة للمسلك الديمقراطي.
بيد أن ثلاث تجارب عالمية كبرى تشكل نقطة اختبار لهذه المعادلة الرائجة (تناسب النمو الاقتصادي والحريات السياسية والية التنظيم الديمقراطي)، وتسمح بمراجعة جذرية لهذه القاعدة المهيمنة في الفكر السياسي المعاصر.
أولى هذه التجارب هي النموذج الصيني الذي يستأثر هذه الأيام باهتمام عالمي واسع، بما يحمله من خصوصيات فريدة هي الجمع بين الحيوية الرأسمالية العالية والأحادية الحزبية المغلقة.
فأغلب التحليلات ذهبت في نهاية الثمانينات الى أن التجربة الشيوعية الصينية ستعرف نفس المال الذي عرفته التجربة السوفيتية التي انهارت اثر الإصلاحات التي تبناها آخر رئيس للاتحاد السوفيتي المتفكك (غورباتشوف). وقد شكلت أحداث ساحة تنيامن مؤشرا على هذا التحول المرتقب، بيد أن الصين شهدت تطورات مغايرة منذ مطلع التسعينات تمحورت حول الإصلاح الاقتصادي الشامل باعتماد النظم الرأسمالية الأكثر انفتاحا مع الحفاظ على أحادية الحزب ودوره المهيمن على الساحة السياسية.
سمح هذا النجاح بتبوء الصين المركز الرابع في الاقتصاد العالمي بالحفاظ على نسبة نمو مرتفعة تجاوزت العشرة في المائة افرزت طبقة رأسمالية شديدة الثراء مندمجة في المنظومة الاقتصادية للعولمة. ويجدر التنبيه هنا الى أن هذه الطفرة المثيرة قد قامت على إشراك النخب العلمية والتكنوقراطية التي قبلت بتأجيل الإصلاح السياسي مقابل دفع المسار التنموي وفتح أبواب البحث العلمي والأكاديمي، وافتكت هوامش حرية تعبير وتفكير محدودة في هذا النطاق. وباعتبار أن اقتصاد الموجة التقنية الثانية يقوم على المعرفة، فإن النخب العلمية شكلت إحدى القوى المجتمعية المستفيدة من التحول الرأسمالي، الذي عرفته الصين في الأعوام الأخيرة. وتبدو التجربة الصينية الآن مستقرة في خصوصيتها المذكورة، ولم تعد تتهددها نوازع الفتنة والفوضى التي جرفت التجارب الشيوعية في أوربا الشرقية التي انتكست أساسا لأسباب اقتصادية (التخلف العلمي والتنموي).
أما النموذج الثاني الذي تقف عنده فهو التجربة اللاتينية الأمريكية المتميزة التي تتمثل خصوصيتها في انبثاق أنظمة شعبوية ثورية راديكالية من انتخابات ديمقراطية شفافة ونزيهة، مما يفند الاعتقاد السائد بأن الطبقات البورجوازية المندمجة في المنظومة الاقتصادية الليبرالية هي المستفيد من الحراك الديمقراطي. فهذه البلدان التي عرفت في السبعينات اعتي الديكتاتوريات العسكرية تمكنت في الثمانينات من استنبات النظم الديمقراطية الحرة من خلال عقد صفقة ناجحة بين المؤسسة العسكرية الحاكمة والقوى السياسية المناوئة لها.. بيد أن تجارب الحكم الديمقراطي الأولى فشلت في إحداث التغيير المجتمعي المنشود، بالنظر لارتباط النخب السياسية بشبكات الفساد المالي والإداري المتحكمة في الاقتصاد المخصخص في ظرفية تحررت فيها الدولة من أعباء تسيير القطاع العام كما تخلصت من وظائفها الرعوية الادماجية، مما انعكس سلبا على الأوضاع المعيشية للسكان.
وفي السنوات الأخيرة، افرز الحقل السياسي قوى جديدة من خارج مجتمع النخبة الكلاسيكية، تمحورت حول ديناميكيات العمل الأهلي ونضالات الأقليات القومية وحركات العولمة البديلة وتشكيلات اليسار الجديد.
وقد تمكنت هذه الحركات الاحتجاجية في البرازيل من إقالة الرئيس فرنادو كولور دملو المتهم بالرشوة، ومن إطاحة فجيرو في البيرو، وفرناندوو لارا في الارجنتين.وشهدت الاكوادور وبوليفيا حالات مماثلة بحسب الاتجاه ذاته، اي انتفاضة الشارع المعبأ من القوى الاجتماعية الجديدة ضمن ضوابط الآليات المؤسسية الديمقراطية.
وقد أصبحت اغلب بلدان أمريكا الجنوبية محكومة اليوم من هذه القيادات اليسارية القومية التي تتبنى أكثر المفاهيم الثورية الراديكالية برفض المنظومة الرأسمالية والن هج التنموي الذي تقوم عليه. وأهم هذه التجارب هي تجربة لولا داسيلفا في البرازيل وهيغو تشافيز في فنزويلا ون ستور كرشنر في الأرجنتين.
أما النموذج الثالث الذي نكتفي بالإٌشارة إليه في هذه الحيز فهو التجربة الإفريقية التي كنا توقعنا عندها في مناسبات سابقة. ويتعلق الأمر بتجارب إصلاح سياسي وتداول سلمي على السلطة، أثبتت نجاعتها في سياق متأزم، كانت فيه الآلية الديمقراطية مخرجا حتميا من حالة الفتنة الأهلية والتفكك الشامل التي شهدتها اغلب بلدان إفريقيا جنوب الصحراء بعد نهاية الحرب الباردة. فالنظام الديمقراطي من هذا المنظور لم يكن الثمرة الايجابية لمسار تنموي ليبرالي ناجع، بل تجسيد لصفقة عصية بين فاعلين سياسيين (هم في الغالب من زعامات الطوائف والقوميات وقادة العصابات والمليشيات)، للخروج من حالة الصراع المسلح والفتنة الأهلية المدمرة، وقد أثبتت الآلية الديمقراطية نجاعتها في تحقيق هذه النقلة من الصدام العنيف الى الصراع السلمي على السلطة، بدلا أن تكون عامل تأجيج للفتنة والصراع كما ينظر الكثيرون.