السيد ولد اباه
كتب الصديق يوسف الصمعان في مقاله المتميز بصحيفة «الشرق الأوسط»
(12/04/2007) مشخصا تركيبة وحضور التيار الليبرالي السعودي في الحقل
الفكري أن أزمة هذا التيار تعود الى أنه مقطوع الصلة بالتراث الإسلامي،
منتهيا في خاتمة مقاله الى القول «الليبراليون يدركون عمق المشكلة، مشكلة
أن لا فقيه بينهم، وأن المخلص القادم، يجب أن يكون ليبراليا بلا عقال».ويقارن
الصمعان بين حالة الليبراليين السعوديين ودعاة التحديث والتنوير في مصر في
أوائل القرن العشرين الذين خرجوا من عباءة الإصلاح الديني ومن التكوين
الأزهري، وأصحاب المشاريع التحديثية في المغرب العربي الذين تمحورت جهودهم
الفكرية حول قراءة التراث العربي الإسلامي وتجديد صيغ مقاربته وتأويله.
وكنت قد سمعت من المفكر المغربي البارز محمد عابد الجابري في مطلع
الثمانينات أيام صدور المجلدين الأولين من عمله الموسوعي «نقد العقل
العربي»، أنه انتبه بعد تشخيص دقيق لإخفاق ديناميكية التحديث العربية، الى
أن أرضية المعركة الحقيقية هي نصوص التراث الذي أخطأنا عندما اعتبرناه
ماضيا انفصلنا عنه، فتركناه للأصولية المتطرفة التي احتكرت بذلك أدوات
التواصل مع الناس. وقد تكون الحالة السعودية أكثر تعقيدا، باعتبار
ان الوضع الثقافي الخاص بهذه البلاد التي اضطلعت فيها المؤسسة الدينية منذ
قيامها بدور محوري معروف، أفضى إلى تشكل حالة فكرية تهيمن عليها الثقافة
التراثية التي اخترقت منذ الستينات بكتابات مدرسة الإخوان المسلمين
وامتداداتها المعروفة. وبطبيعة الأمر لم تكن الساحة الثقافية
السعودية مقطوعة الصلة بالاتجاهات الفكرية الحديثة بحكم ارتباطها المزدوج
المكين بالرافدين المصري والشامي (السوري واللبناني)، بيد أن التيار
الليبرالي التحديثي السعودي سلك منذ تبلوره المسلك الأدبي والنقدي، ولم
يعن في الغالب بالإشكالات الفكرية المجتمعية التي شغلت الاتجاهات
التحديثية العربية.وبصرف النظر عن جهود «رواد التنوير السعودي» من
امثال محمد سرور الصبان ومحمد حسن عواد..، فإن ما يدعى بحركة الحداثة في
السعودية بدأ متأخرا في السبعينات، ولم يأخذ شكله المكتمل إلا في
الثمانينات. ولا شك أن كتاب عبد الله الغذامي، الذي هو أحد رواد
هذا التيار «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية» (صدر عام 2002)
يقدم في خليط ممتع بين السيرة الشخصية والتاريخ الثقافي شهادة مهمة على
لحظة تشكل وتطور هذا التيار الذي طبع بقوة الحياة الفكرية في المملكة
العربية السعودية. وقد يستغرب الكثيرون خارج المملكة الضجة الهائلة
والمعارك الشرسة التي واكبت نشأة وتطور الاتجاه الحداثي السعودي الذي لم
يتجاوز الحيز الأدبي والنقدي.فمن المثير أن يكون نقد العمود
الخليلي وتطبيق المناهج البنيوبة والتفكيكية على نصوص الأدب العربي القديم
مما يجلب التهمة بالتكفير والتبديع، كما حصل لرموز المدرسة الحداثية
السعودية من أمثال الغذامي وسعيد السريحي الذي رفضت أطروحته للدكتوراه عام
1989 لأسباب عقدية لا عملية، وسعد البازعي.. ويمكن أن نضيف إلى هذه
الأعمال النقدية الأعمال الإبداعية لغازي القصيبي وتركي الحمد، وكلاهما
مفكر سياسي واجتماعي متميز. ويجدر التذكير هنا بأن المعارك التي
فجرتها كتابات الاتجاه الحداثي السعودي عكست صداما ثقافيا حادا بين هذا
التيار الذي تقمص العباءة الأدبية لبلورة تصور جديد لقراءة النص وتأويل
الخطاب لا شك أنه ـ على طابعه الايحائي الحذر ـ يقدم آفاقا جديدة لإعادة
تفكيك التراث وكسر وثوقية وانغلاق المعنى والدلالة.وقد تزامنت هذه
الحركية الأدبية النقدية الثرية مع صعود التيار الصحوي (الإخواني) الذي
ركز اهتمامه على محاربة الموجة الحداثية، نشير هنا على الأخص إلى كتابي
عوض القرني «الحداثة في ميزان الإسلام» وسعيد الغامدي «الانحراف العقدي في
أدب الحداثة وفكرها».وكما أشار يوسف الصمعان وقَفَ الاتجاه الحداثي
السعودي عند المحطة الأدبية، ولم يقطع الخطوة الموالية، أي تطبيق مناهج
تأويل النص وتاريخ الثقافة على التراث العربي الإسلامي وعلى أصول الفكر
السعودي نفسه، ولم يتناغم مع الاتجاهات التجديدية النقدية المحتشمة التي
خرجت من رحم الدراسات الشرعية. وبالمقارنة بين الاتجاه الليبرالي السعودي
والتيارات الليبرالية في الكويت والبحرين، يتبين أن هذه التيارات سلكت منذ
البداية نهج التحديث السياسي والاجتماعي وتأثرت بالمدارس الآيديولوجية
المشرقية، وكانت الاهتمامات الإبداعية والنقدية هامشية فيها. ففي الكويت
شكل الاتجاه الليبرالي المؤسس (المدعى محليا برواد النهضة الكويتية)
العمود الفقري لجهود التحديث السياسي والفكري والتربوي، واستطاع بناء
قاعدة مؤسسية صلبة حاضنة لشتى مسالك الثقافة العربية المعاصرة، في الوقت
الذي كان للتيار الليبرالي الآيديولوجي حضورا متصلا في البرلمان المنتخب.
وقد أفضت هذه المعادلة في السنوات الأخيرة إلى حالة قريبة من الحالة
المصرية ميزتها التصادم الفكري والآيديولوجي الحاد بين التيار الليبرالي ـ
العلماني والأصولي ـ الإسلامي وإن كانت نجحت الضوابط الديمقراطية
والمؤسسية القائمة في احتواء مخاطر هذا الصدام. وإذا كانت الثقافة
البحرينية تتشابه مع الحالة الكويتية، من حيث ظروف ومحددات التشكل وخلفيات
انبثاق التيار التحديثي الليبرالي، إلا أن الحالة الطائفية القائمة
والأزمات السياسية المرتبطة بها أضافت أبعادا مميزة على هذه التجربة،
خصوصا في مرحلة ما بعد الثورة الإيرانية التي شهدت تنامي الأصولية الشيعية
الثورية بينما نجمت عن حالة الانفتاح السياسي في السنوات الأخيرة حيوية
فكرية عالية طالت المجال الإبداعي والأدبي. ان ما نريد ان نخلص إليه هو أن
حيوية التيار الليبرالي في الكويت والبحرين تفسر باستناده لمواقع ومنابر
مؤسسية مكينة في الوقت الذي لم يتجاوز حضور الليبراليين السعوديين حيز
النوادي الأدبية التي تعكس بدون شك حالة ثقافية حية ونشطة، لا تصل إلى
الفضاءات المؤسسية الأخرى. ومن المؤسف أن هذا التيار لم يستفد من حالة
الحراك الاقتصادي المتميز الذي أفرز هياكل مؤسسية حديثة، كما لم يتمكن من
استثمار جهود الانفتاح الفكري والإعلامي الملموسة والمتزايدة في تأطير
مشروع فكري، مؤهلاته وامكاناته متوفرة، بشرط التناغم مع المرجعية الثقافية
السائدة والتجديد من داخلها، كما أدرك رواد التحديث العربي.
كتب الصديق يوسف الصمعان في مقاله المتميز بصحيفة «الشرق الأوسط»
(12/04/2007) مشخصا تركيبة وحضور التيار الليبرالي السعودي في الحقل
الفكري أن أزمة هذا التيار تعود الى أنه مقطوع الصلة بالتراث الإسلامي،
منتهيا في خاتمة مقاله الى القول «الليبراليون يدركون عمق المشكلة، مشكلة
أن لا فقيه بينهم، وأن المخلص القادم، يجب أن يكون ليبراليا بلا عقال».ويقارن
الصمعان بين حالة الليبراليين السعوديين ودعاة التحديث والتنوير في مصر في
أوائل القرن العشرين الذين خرجوا من عباءة الإصلاح الديني ومن التكوين
الأزهري، وأصحاب المشاريع التحديثية في المغرب العربي الذين تمحورت جهودهم
الفكرية حول قراءة التراث العربي الإسلامي وتجديد صيغ مقاربته وتأويله.
وكنت قد سمعت من المفكر المغربي البارز محمد عابد الجابري في مطلع
الثمانينات أيام صدور المجلدين الأولين من عمله الموسوعي «نقد العقل
العربي»، أنه انتبه بعد تشخيص دقيق لإخفاق ديناميكية التحديث العربية، الى
أن أرضية المعركة الحقيقية هي نصوص التراث الذي أخطأنا عندما اعتبرناه
ماضيا انفصلنا عنه، فتركناه للأصولية المتطرفة التي احتكرت بذلك أدوات
التواصل مع الناس. وقد تكون الحالة السعودية أكثر تعقيدا، باعتبار
ان الوضع الثقافي الخاص بهذه البلاد التي اضطلعت فيها المؤسسة الدينية منذ
قيامها بدور محوري معروف، أفضى إلى تشكل حالة فكرية تهيمن عليها الثقافة
التراثية التي اخترقت منذ الستينات بكتابات مدرسة الإخوان المسلمين
وامتداداتها المعروفة. وبطبيعة الأمر لم تكن الساحة الثقافية
السعودية مقطوعة الصلة بالاتجاهات الفكرية الحديثة بحكم ارتباطها المزدوج
المكين بالرافدين المصري والشامي (السوري واللبناني)، بيد أن التيار
الليبرالي التحديثي السعودي سلك منذ تبلوره المسلك الأدبي والنقدي، ولم
يعن في الغالب بالإشكالات الفكرية المجتمعية التي شغلت الاتجاهات
التحديثية العربية.وبصرف النظر عن جهود «رواد التنوير السعودي» من
امثال محمد سرور الصبان ومحمد حسن عواد..، فإن ما يدعى بحركة الحداثة في
السعودية بدأ متأخرا في السبعينات، ولم يأخذ شكله المكتمل إلا في
الثمانينات. ولا شك أن كتاب عبد الله الغذامي، الذي هو أحد رواد
هذا التيار «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية» (صدر عام 2002)
يقدم في خليط ممتع بين السيرة الشخصية والتاريخ الثقافي شهادة مهمة على
لحظة تشكل وتطور هذا التيار الذي طبع بقوة الحياة الفكرية في المملكة
العربية السعودية. وقد يستغرب الكثيرون خارج المملكة الضجة الهائلة
والمعارك الشرسة التي واكبت نشأة وتطور الاتجاه الحداثي السعودي الذي لم
يتجاوز الحيز الأدبي والنقدي.فمن المثير أن يكون نقد العمود
الخليلي وتطبيق المناهج البنيوبة والتفكيكية على نصوص الأدب العربي القديم
مما يجلب التهمة بالتكفير والتبديع، كما حصل لرموز المدرسة الحداثية
السعودية من أمثال الغذامي وسعيد السريحي الذي رفضت أطروحته للدكتوراه عام
1989 لأسباب عقدية لا عملية، وسعد البازعي.. ويمكن أن نضيف إلى هذه
الأعمال النقدية الأعمال الإبداعية لغازي القصيبي وتركي الحمد، وكلاهما
مفكر سياسي واجتماعي متميز. ويجدر التذكير هنا بأن المعارك التي
فجرتها كتابات الاتجاه الحداثي السعودي عكست صداما ثقافيا حادا بين هذا
التيار الذي تقمص العباءة الأدبية لبلورة تصور جديد لقراءة النص وتأويل
الخطاب لا شك أنه ـ على طابعه الايحائي الحذر ـ يقدم آفاقا جديدة لإعادة
تفكيك التراث وكسر وثوقية وانغلاق المعنى والدلالة.وقد تزامنت هذه
الحركية الأدبية النقدية الثرية مع صعود التيار الصحوي (الإخواني) الذي
ركز اهتمامه على محاربة الموجة الحداثية، نشير هنا على الأخص إلى كتابي
عوض القرني «الحداثة في ميزان الإسلام» وسعيد الغامدي «الانحراف العقدي في
أدب الحداثة وفكرها».وكما أشار يوسف الصمعان وقَفَ الاتجاه الحداثي
السعودي عند المحطة الأدبية، ولم يقطع الخطوة الموالية، أي تطبيق مناهج
تأويل النص وتاريخ الثقافة على التراث العربي الإسلامي وعلى أصول الفكر
السعودي نفسه، ولم يتناغم مع الاتجاهات التجديدية النقدية المحتشمة التي
خرجت من رحم الدراسات الشرعية. وبالمقارنة بين الاتجاه الليبرالي السعودي
والتيارات الليبرالية في الكويت والبحرين، يتبين أن هذه التيارات سلكت منذ
البداية نهج التحديث السياسي والاجتماعي وتأثرت بالمدارس الآيديولوجية
المشرقية، وكانت الاهتمامات الإبداعية والنقدية هامشية فيها. ففي الكويت
شكل الاتجاه الليبرالي المؤسس (المدعى محليا برواد النهضة الكويتية)
العمود الفقري لجهود التحديث السياسي والفكري والتربوي، واستطاع بناء
قاعدة مؤسسية صلبة حاضنة لشتى مسالك الثقافة العربية المعاصرة، في الوقت
الذي كان للتيار الليبرالي الآيديولوجي حضورا متصلا في البرلمان المنتخب.
وقد أفضت هذه المعادلة في السنوات الأخيرة إلى حالة قريبة من الحالة
المصرية ميزتها التصادم الفكري والآيديولوجي الحاد بين التيار الليبرالي ـ
العلماني والأصولي ـ الإسلامي وإن كانت نجحت الضوابط الديمقراطية
والمؤسسية القائمة في احتواء مخاطر هذا الصدام. وإذا كانت الثقافة
البحرينية تتشابه مع الحالة الكويتية، من حيث ظروف ومحددات التشكل وخلفيات
انبثاق التيار التحديثي الليبرالي، إلا أن الحالة الطائفية القائمة
والأزمات السياسية المرتبطة بها أضافت أبعادا مميزة على هذه التجربة،
خصوصا في مرحلة ما بعد الثورة الإيرانية التي شهدت تنامي الأصولية الشيعية
الثورية بينما نجمت عن حالة الانفتاح السياسي في السنوات الأخيرة حيوية
فكرية عالية طالت المجال الإبداعي والأدبي. ان ما نريد ان نخلص إليه هو أن
حيوية التيار الليبرالي في الكويت والبحرين تفسر باستناده لمواقع ومنابر
مؤسسية مكينة في الوقت الذي لم يتجاوز حضور الليبراليين السعوديين حيز
النوادي الأدبية التي تعكس بدون شك حالة ثقافية حية ونشطة، لا تصل إلى
الفضاءات المؤسسية الأخرى. ومن المؤسف أن هذا التيار لم يستفد من حالة
الحراك الاقتصادي المتميز الذي أفرز هياكل مؤسسية حديثة، كما لم يتمكن من
استثمار جهود الانفتاح الفكري والإعلامي الملموسة والمتزايدة في تأطير
مشروع فكري، مؤهلاته وامكاناته متوفرة، بشرط التناغم مع المرجعية الثقافية
السائدة والتجديد من داخلها، كما أدرك رواد التحديث العربي.