فور اعلان فوزه بالرئاسة في الجولة الانتخابية الثانية، أعلن الرئيس
الموريتاني المنتخب، سيدي ولد الشيخ عبد الله عزمه اجراء استفتاء شعبي علي
الصلح مع اسرائيل، الذي كان النظام السابق بزعامة ولد الطايع قد الزم
موريتانيا به لتعزيز مركزه لدي الادارة الأمريكية، بحيث توفر له متطلبات
البقاء في مواجهة اتساع دائرة القوي الوطنية المعارضة، وتوالي محاولات
الانقلاب علي حكم ديكتاتوري فاقد للشرعية ومولغ في قمع حركة المقاومة.
ولما كانت موريتانيا ليست من دول المواجهة ولا تحملت أدني عبء علي مدي
تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني الممتد، كان طبيعياً أن لا يلقي تفريط
النظام بالقضية الفلسطينية صوتا موريتانيا واحداً مؤيداً، ولا حتي قابلاً،
خارج اطار مرتزقة السلطة، لتناقض ذلك تناقضا رئيسياً مع المشاعر الوطنية
والقومية والاسلامية التي تشغل فكر ووجدان شعب متميز بحساسية مفرطة تجاه
كل ما فيه أدني مساس بعروبة واسلام أرض شنقيط، بلد المليون شاعر.
وكان
طبيعياً والحال كذلك اتساع دائرة مقاومي الصلح والتطبيع، والمطالبة بقطع
العلاقات مع الكيان الصهيوني، بحيث غدت المطالبة بذلك من بعض محفزات
الحراك السياسي لتغيير النظام، وفي مقدمة دوافع الشعور بافتقاده مشروعيته
الوطنية وشرعيته الدينية. وبالتالي تصاعدت وعلي نحو طردي المطالبة بقطع
العلاقات الدبلوماسية ووقف كل أشكال التطبيع مع الصهاينة. وكان في مقدمة
المطالبين بذلك حزب التحالف الشعبي ، المؤلف من تحالف الناصريين و حركة
الحر (الخراطين) ـ الأرقاء سابقاً ـ ذوي الأصول الأفريقية، وكذلك مسعود
أبو الخير، أحد أبرز أركان المعارضة الوطنية، الذي تذهب الأوساط السياسية
الموريتانية الي اعتبار تأييده ولد الشيخ عبد الله في الجولة الثانية
العامل الحاسم في فوزه بالرئاسة.
ويذهب عدد من الفقهاء الدستوريين الي
أن اعتماد الاستفتاء الشعبي كأداة ديمقراطية هو الوسيلة الأفضل للتعبير عن
الارادة الشعبية بشكل مباشر، لتميزه كيفيا عن البرلمانات وما في حكمها، في
تمكين الشعب من التعبير عن ارادته، في حين أن البرلمان ينزل أعضاءه منزلة
الأوصياء علي الارادة الشعبية. وكان اللجوء للاستفتاء الشعبي أول ما ظهر
في أوروبا الوسطي مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، ثم توالي اللجوء إليه في
العديد من الدول خلال العقود الثمانية الماضية. غير أن عدداً آخر من
الفقهاء الدستوريين ينبهون الي أن الأنظمة الشمولية الأوروبية هي التي
ابتدعت فكرة الاستفتاء الشعبي لتخطي عقبة عدم استطاعتها تمرير بعض
القرارات من خلال المجالس التشريعية المنتخبة. الأمر الذي يدعو في نظر هذه
الفئة من الفقهاء الدستوريين الي التعاطي مع الدعوة للاستفتاء الشعبي
بمنتهي اليقظة والحذر، سيما وأنه يندر اللــجوء للاستفتاء الشعبي في
الأحوال الطبيعية.
وفضلاً عن ذلك فان نتائج الاستفتاء، تتوقف علي نوعية
الأسئلة المطروحة علي المستفتين، كما علي استقلالية ونزاهة الجهاز القائم
بالاستفتاء، علاوة علي تأثيرات المناخ السياسي الذي يجري فيه. ومن هنا
تدرك المخاوف التي ساورت الشارع السياسي الفلسطيني غداة تهديد الرئيس
محمود عباس باللجوء الي الاستفتاء علي برنامجه السياسي أثناء الجدل حول
وثيقة الاتفاق الوطني المعدلة لوثيقة الأسري. ولم يخف كثيرون يومذاك
مخاوفهم من استغلال مناخ الشعور بالرغبة في الخلاص من الواقع المأزوم،
بسبب الحصار والفلتان الأمني والصدامات الفصائلية، في تمرير برنامج الرئيس
ومطالبته حماس الاعتراف باسرائيل، ونبذ العنف ، واقرار ما سبق أن التزم به
فريق أوسلو من اتفاقيات جري توقيعها من وراء ظهر الشعب العربي الفلسطيني.
ولا
خلاف أن عسكر موريتانيا، بقيادة العقيد أعلي ولد محمد فال، قدموا لأمتهم
العربية أمثولة توظيف الانقلاب العسكري في إحداث التغيير الديمقراطي بعد
أن سد النظام الدكتاتوري بقمعه وعنفه الفرص أمام الشارع السياسي وقواه
الاجتماعية لإحداث التغيير المطلوب بالطرق الديمقراطية. كما أنه مما يذكر
للنخب السياسية والعسكرية الموريتانية اجراء الانتخابات التشريعية
والرئاسية بمنتهي النزاهة والشفاقية. فضلاً عن أن في الأفق الموريتاني
الخاص، والعربي العام، ما يؤشر الي أن مناخات شيوع ثقافة الهزيمة، بالخضوع
لأحكام الأمر الواقع، لم تعد قائمة بعد اسقاط النظام الدكتاتوري في
موريتانيا، ووضوح ابداعات المقاومة في العراق ولبنان وفلسطين، وتنامي حراك
قوي الممانعة والتغيير في مصر، الساحة العربية صاحبة الأدوار التاريخية،
مما يؤشر لبداية نهاية مرحلة التغول الأمريكي والعربدة الصهيونية، وتداعي
استراتيجية اقامة الشرق الأوسط الكبير ، في مقابل تنامي دور قوي الممانعة
والمقاومة في صناعة الحاضر والمستقبل العربي. وبالتالي غدا المناخ
الموريتاني الخاص والعربي العام علي عتبات تحول كيفي عما كانت عليه الحال
عندما شاعت الهرولة باتجاه الصلح والتطبيع.
والسؤال والحال كذلك: هل
يشكل الانجاز الديمقراطي الموريتاني ضمانة اجراء الاستفتاء علي الصلح مع
اسرائيل، الذي التزم به الرئيس المنتخب، بذات المستوي من الموضوعية
والنزاهة، وبالتالي امكانية أن تقدم موريتانيا لأمتها أمثولة اسقاط ما سبق
الزام شعبها به من صلح وتطبيع في تجاوز لارادته وعدوان صريح علي حقه
المشروع دولياً في مقاومة عدو أمته. أم أن تركة نظام ولد الطايع، وبخاصة
سعة وعمق المداخلات الأمريكية والأوروبية في الشؤون الموريتانية، سوف تلقي
بظلالها السود علي الاستفتاء الشعبي، بحيث لا تخرج نتيجته عن المسار الذي
اختطه النظام السابق في تطويع الارادة الشعبية بما يتوافق والاملاءات
الأمريكية؟
سؤال الاجابة عنه رهن بالأسلوب الذي سوف يعتمد في اجراء
الاستفتاء العتيد، وفيما اذا كان سيسبقه حوار وطني واسع المدي، مماثل لذلك
الذي جري حول اقرار حقوق المعارضة، والتي توجت باقرار وثيقة الاعتراف
بالمعارضة كقوة وطنية تتمتع بحق ممارسة حراكها وحقوقها السياسية كافة
بحرية تامة، وفسح المجال أمامها قانونياً لاستخدام أجهزة الاعلام الرسمية
للتعبير عن ارائها ومواقفها، وإذا تم التعامل مع القوي المعارضة للصلح
والتطبيع باعتبارها معارضة وطنية لها كامل الحقوق السابق ذكرها، وبحيث
يتاح لها استخدام أجهزة الاعلام الرسمية، دون أي رقابة مانعة، لتوعية
الجمهور بخطر الصلح والتطبيع ليس فقط علي حقوق شعب فلسطين المشروعة، وانما
أيضا علي أمن واستقرار شعب موريتانيا وعلاقته التاريخية بعمقه العربي،
وبيان المكاسب التي جناها العدو، دون أي ثمن، من الصلح والتطبيع.
فالاحتمال الأرجح أن يسقط شعب موريتانيا ديمقراطياً الالتزام غير الوطني
بالصلح والتطبيع مع اسرائيل. وإن هو فعل ذلك يكون قد قدم لشعوب امته
الامثولة الديمقراطية الثانية الجديرة بالاقتداء، ويؤشر للتقدم العربي علي
صعيد مواكبة العصر.
عوني فرسخ
ہ كاتب من فلسطين يقيم في الامارات