العقيد ولد حننا أثناء لقائه مع موفد شبكة إسلام أون لاينلا تكتمل صورة المشهد الموريتاني من دون هذا الرجل، فهو أشهر انقلابي مهدت انقلاباته "الفاشلة" الطريق إلى الانقلاب الأخير في عام 2005، والذي أنهى حقبة الرئيس معاوية ولد الطايع، وأسس لحقبة جديدة في تاريخ البلاد. وبرغم أن العالم كله احتفى بالتجربة الموريتانية وصفق لها باعتبارها بداية الانتقال إلى الديمقراطية ونهاية الاستبداد ومن ثم الانقلابات في موريتانيا، فإنه ظل استثناءً في هذا، وبقي متشككا يرفض "التسرع" في منح التجربة الديمقراطية صك الاعتراف النهائي قبل أن تثبت فعليا جدارتها وأنها حقيقية وليست مسرحية تعيد إنتاج النظام السابق أو أشباهه.
هذا الرجل هو العقيد صالح ولد حننا الذي وإن لم يحصل على نسبة معتبرة في الانتخابات الرئاسية التي أنهت فترة المجلس العسكري الانتقالي، فهو بنظر غالبية الموريتانيين يعد بطلا قوميا وقائدا شجاعا، كان أول من وضع رأسه على كفه وقام بمحاولتين للتخلص من النظام البائد. وما زال الناس؛ خصوصا الشباب يرددون بإعجاب مرافعته التي ألقاها أمام المحكمة التي مثُل أمامها بعد القبض عليه إثر فشل محاولته الانقلابية الثانية عام 2004.
ويلاحظ الزائر ـ الذي لا تكتمل زيارته إلا بلقاء هذا الرجل ـ لموريتانيا أن صورة الشعب الموريتاني عن العسكري الانقلابي غير تلك التي نراها في بقية الوطن العربي؛ فهو ليس ذلك الرجل العابس ذو الحذاء الغليظ، والذي يتحسس مسدسه إذا سمع كلمة ثقافة أو مثقف ولا تعدو السياسة عنده إلا فرصة لا يمكن إلا أن ينتهزها لقلب طاولة المشهد السياسي لإعادة ترتيبه بما يجمع تحت يديه من خيوط السلطة ومقاليدها، فصورة العسكري الانقلابي في وعي الموريتانيين -كما تجتمع في شخص صالح ولد حننا- فيها من البطولة بل والأسطورية ما لن تجده في أي من أنحاء الوطن العربي أو إفريقيا.
وفيما يلي نص الحوار:
**هل العسكري الانقلابي في موريتانيا له خصوصية ما، أم أن في موريتانيا عسكر غير الذي يعرفه بقية الوطن العربي؟
- أود الإشارة إلى أن الحالة السياسية البائسة التي أفرزت الانقلابات العسكرية التي بدأتها جعلت كل الشعب الموريتاني ينتظر أي بصيص أمل ويتشبث بأي عمل وبأي شخص من شأنه أن يغير من تلك الحالة التي عرفناها في أثناء حكم ولد الطايع. وقد ساهمت محاولات الانقلاب التي لم تنجح وصراعنا السياسي مع النظام وظروف المحاكمات التي تعرضنا لها وما جرى فيها من مرافعات وتغطيات صحفية، في توضيح موقفنا وخلق صورة أوضح عنا كعسكر حاولنا الانقلاب على هذا النظام المستبد، ووضحت أهدافنا الحقيقية ومبادئنا التي حركتنا من أجل الشعب والوطن، وأوضحت أننا لم نسع إلى سلطة أو إلى مصلحة خاصة وإنما كنا مخلصين للبلاد والعباد، وهذه خصوصية حالتنا الانقلابية.
**ذكرتم في أثناء مرافعتكم أمام المحكمة بعد فشل محاولتكم الانقلابية عام 2004، أن الانقلاب هو نوع من العمل السياسي يلجأ إليه حين تغلق السياسة أبوابها. فهل هذا استدعاء مفتوح للعسكر في السياسة أم هو مرهون بلحظة الانغلاق التام للسياسة؟
- إذا ما وصل الانسداد السياسي إلى نهايته، وتعذر أي نوع من أنواع التأثير في السياسة بالوسائل الطبيعية والمعهودة، فلن يكون هناك إلا اللجوء إلى أنواع أخرى مثل تحريك الشارع أو العصيان المدني. ولما كان هذا صعبًا بل مستحيلا في ظروفنا خاصة مع طبيعة المجتمع الموريتاني وتركيبته، فلم يكن أمامنا إلا الانقلاب العسكري على هذه الأوضاع.
وأتذكر أن أحد القادة العسكريين كان يقول إن الحرب هي استمرار للدبلوماسية، ولكن بوسائل أخرى. وأنا أقول إن الانقلاب هو استمرار للسياسة إذا أغلقت أبوابها الطبيعية كاملة وإذا ما سدت جميع الأبواب أمام الفعل السياسي المؤثر.
**كيف رأيت انقلاب أغسطس 2005 الأخير الذي نجح بعد محاولتين فاشلتين قمت بهما؟
- أراه استمرارًا لنفس المسيرة التي بدأناها، ولكن الفارق أن الانقلاب نجح هذه المرة وتحققت أهدافه، وأنه كان لا بد أن يقع.
**وهل ترى أن التجربة الديمقراطية التي دشنها الانقلاب الأخير نجحت في تأسيس شرعية جديدة تغلق الباب أمام فكرة الانقلابات العسكرية؟
- إلى حد ما، غذ لا يمكن أن نقول إنه أسس لذلك بشكل نهائي؛ لأن العملية السياسية التي جرت تمت في ظروف ليست مثالية، وقد شهدت أخطاء كبيرة وتدخلا من المجلس العسكري فيها. وما آمله أن يتم تلافي ما جرى من أخطاء وتدخلات في الفترة القادمة التي أعتبرها هي الفترة الانتقالية الحقيقية وليست فترة التسعة عشر شهرا التي تلت الانقلاب العسكري الأخير. فما عشناه في فترة ما بعد الانقلاب العسكري ليس هو المرحلة الانتقالية بل كان مرحلة ترتيب لفترة انتقالية تبدأ بعد تولي الرئيس الجديد المنتخب مهامه وبدء تجربته التي ستكشف عما ستسير إليه التجربة.
وأتصور أن السنوات الخمس القادمة هي المختبر، فإذا ما استطاعت السلطة الجديدة تلافي الأخطاء وبداية عصر جديد فسيكون هذا بداية تأسيس الشرعية الجديدة التي تتحدث عنها والتي يمكن أن تغلق الباب نهائيا أمام فكرة الانقلاب العسكري في موريتانيا، وهذا منوط بتأسيس تجربة ديمقراطية حقيقية وبناء دولة العدل والمساواة والحرية.
وإذا حدث هذا فلن يكون هناك أي مبرر للانقلاب العسكري، وهذا ما نرجوه، لكن – وهذا خطر ما زال قائما- إذا ما حاول النظام القديم إعادة إنتاج نفسه مستغلا ما يعتبر أنه شرعية جديدة حصل عليها في الانتخابات الأخيرة، وحاول الاستمرار في نفس المحاولات وارتكاب نفس الانتهاكات واستدعاء وتمكين نفس الأشخاص الذين أفسدوا البلاد والعباد في فترة حكم ولد الطايع، فسيبقي خيار الانقلاب باقيا!
**في الخمس سنوات التي تقترحها سنوات انتقالية.. كيف تتصور الدور المفترض للعسكر والأفضل لهم: اجتناب السياسة وترك الفرصة للنظام الجديد أم يظل لهم دور الحارس للتجربة الديمقراطية استدعاءً للنموذج التركي؟
- المؤسسة العسكرية ليست لها أي شرعية في الوصاية على الدولة الموريتانية. وهي أنجزت مهمة تمثلت في إزالة نظام فاسد وظالم وأفسحت المجال للشعب ليحكم نفسه بنفسه. وليها أن تتوارى الآن لتترك للشعب أن يأخذ قراره ويمضي في تجربته. وكان عليها في أثناء قيام الشعب بممارسة خياره ألا تؤثر في نجاح شخص أو خسارة آخر وهو ما حصل فعلا. وعلى المؤسسة العسكرية أن تبتعد تمامًا الآن عن الشأن السياسي وأن تتفرغ لنفسها وتصلح وضعيتها الداخلية فقط؛ لأن الشأن السياسي يجب أن يترك للساسة فقط.
**وأين سيذهب العسكر برأيك؟
- على العسكر أن يعودوا إلى ثكناتهم ويتفرغوا للمهمة التي نذروا أنفسهم من أجلها ويتوقعها منهم الشعب الذي لا ينتظر منهم الآن أن يقوموا بأدوار الساسة.
**ولكن هل تتوقع أن يحدث ذلك فعلا وأن يتحرر النظام الجديد من وصاية العسكر؟
- هذا ما نرجوه، وأتوقع حسب الصورة التي تنقل لي عن الرئيس المنتخب أنه يمتلك القدرة والجرأة على إعادة العسكر إلى مكانهم الطبيعي وإلزامهم به، وهو أمر ليس سهلا ويحتاج شجاعة كبيرة، وعليه أن يقوم بمسئولياته كرئيس دولة له شرعية انتخابية ترفع عنه أي وصاية من أي جهة، حتى ولو كانت الجيش، لقد اختاره الشعب في انتخابات حرة عبر صناديق الانتخاب وليس لأحد منة عليه ولا فضل، كما ليس لأحد عليه وصاية إلا الشعب الذي اختاره، ويجب عليه أن يسخر نفسه لخدمة هذا الشعب.
**أشرتم إلى احتمال أن ينجح النظام القديم في إعادة إنتاج نفسه، هل هناك –بالفعل- احتمالية كبيرة لذلك؟ وما الحل لمنعه؟
- نعم.. هناك خطر ماثل فعلا من أن يعيد النظام البائد إنتاج نفسه، فالمجموعة التي تلتف حول الرئيس الجديد هي نفسها التي كانت حول الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع، وهذا النظام الذي يتشكل من جديد الآن ربما كان هو نفسه النظام السابق ولا يكاد ينقصه سوى شخص ولد الطايع فقط.
- والتحدي الحقيقي الآن هو: هل سيترك لهم الرئيس المنتخب الفرصة ليحكموا الطوق عليه ويهيمنوا على النظام كما كان الوضع مع الرئيس المخلوع، أم أنه سيتحرر من هؤلاء ويتحرك بناء على الشرعية التي اكتسبها من الشعب.. لا بد للرئيس المنتخب أن يتخلص من فكرة كون العسكر وأركان النظام السابق كان لهم نصيب أو دور في إنجاحه، فهو لم ينجح إلا بفارق ضئيل (53% فقط) والشرعية جاءته من شعبه، ولهذا السبب بالذات فقد اتخذنا في إطار ائتلاف قوى التغيير موقفا مبدئيا بمساعدته في التعامل مع قضايا البلاد المصيرية إذا ما أظهر توجها جادا بالاستقلال في إدارة أمور البلاد بعيدا عن رجال النظام السابق أو حتى المؤسسة العسكرية، وحتى نسهم في فك الحصار من حوله، حيث نعلم أنه محاصر الآن من قبلهم حتى لا يرى ولا يسمع ولا يفكر إلا كما يريدون له أن يرى ويسمع ويفكر، وهذا هو الخطر الحقيقي على موريتانيا، وعلى السيد الرئيس أن يستعد له وأن يعلم أنه إذا أعطاهم الفرصة فلن يوصلوه إلا لما أوصلوا إليه سلفه المخلوع ولد الطايع.
**في ضوء ما تقولون، لماذا إذن هذه الصورة الإيجابية لدى الموريتانيين عن العسكر برغم أن الجيش كان جزءًا من النظام الذي انقلب عليه؟ كيف استطاع الشعب التمييز بين رأس النظام وبين الجيش الذي هو أحد أدواته؟ وكيف نجح العسكر في التخلص من وصمة عصر ونظام كامل كانوا جزءا منه؟
- الشعب الموريتاني من أكثر شعوب الوطن العربي وربما العالم اهتماما بالسياسة، وهذا يعطيه قدرة على التمييز طبيعيا بين ما يراه صالحا وما يعتبره خطرا عليه، ثم إن التعميم ليس صوابا دائما، فالمؤسسة العسكرية في موريتانيا ليس كلها جزءا من هذا النظام أو ذاك، فهي عينة تعكس الشعب الموريتاني بتنوعاته المختلفة فيها وطنيون شرفاء وفيها أصحاب مصالح وفيها أنصار النظام المتكسبين منه وفيها معارضوه ومنتقدوه، وفي الجيش الموريتاني ستجد تقريبا كل التوجهات والتيارات الفكرية والسياسية في البلاد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وهناك إمكانية -بل هو الحادث فعلا- لحضور السياسة بين العسكريين في مستوياتهم المختلفة.
ومن المهم الإشارة إلى خصوصية موريتانية، فالجيش الموريتاني غير بقية الجيوش العربية ليس له عقيدة سياسية يصوغها عليه النظام الحاكم، وليس لدينا ما يعرف بإدارة التوجيه المعنوي على غرار ما كان موجودا في الاتحاد السوفيتي أو حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، الجيش الموريتاني خلا تماما من التوجيه السياسي في جميع الأنظمة السابقة، كما لم تهيمن عليه عقيدة سياسية معينة وظل دائما مفتوحًا لكل المؤثرات الفكرية والسياسية، سواء التي يتعرض لها العسكريون قبل دخولهم الجيش أو في أثناء وجودهم فيه، وهو ما جعله متداخلا مع الحالة السياسية في البلاد وغير مؤطر أو موجه لمصلحة النظام كما جعله لا يقف سلبيا أو على الحياد في القضايا السياسية والمصيرية.
**هل كان هذا سببًا في خصوصية التجربة الموريتانية؟
- بالتأكيد، الجيش الموريتاني لم يكن منفصلا أو متغيبا عن الأزمة السياسية وحالة الانهيار التي وصل إليها النظام السابق، وفكرة الانقلاب كانت موجودة داخل الجيش لتغيير الأوضاع حتى قبل المحاولتين اللتين قمت بهما للانقلاب، نحن تحركنا كانعكاس لرغبة داخل الجيش في المحاولتين لتغيير هذه الأوضاع البائسة، كما أن انقلاب أغسطس 2005 كان متوقعا بل شبه مقطوع به، بل وكان حدثا ينتظر الجميع وقوعه ولم يكن غريبا، فمشروعات حياد السلطة والحرية السياسية والانتخابات الديمقراطية... إلخ، كانت مشروعات مطروحة للنقاش قبل انقلاب 2005، وبالتالي كانت ستفرض نفسها على أي من وصل إلى السلطة ولو بانقلاب عسكري.
**لكن نفس الانسداد السياسي وأكثر منه نجده في بقية بلاد الوطن العربي الأخرى ولم تولد التجربة إلا في موريتانيا؟
- لقد حدث في الفترة من 2003 إلى 2005 ثلاثة انقلابات عسكرية، وهذا ما لم يشهده بلد عربي آخر. كان الشارع الموريتاني كله يغلي في الداخل، وكذلك الجاليات في الخارج أيضا كانت تقوم بدورها. ومن قاموا بانقلاب 2005 لم يكن ليفعلوا ذلك من دون حالة سياسية معارضة كالتي شهدتها موريتانيا.
وقناعتي أنهم لم يكونوا يفكرون في ذلك قبل محاولتي الانقلاب التي قمنا بها، ولكن المناخ السياسي فرض نفسه على الجيش وحركة الساحة السياسية في موريتانيا متقدمة بعكس ما هو حاصل في البلدان العربية الأخرى. الأوضاع البائسة قد تكون متشابهة بيننا وبين بقية بلدان الوطن العربي، لكن الفارق هو المناخ السياسي الدافع الذي جعل التدخل العسكري في موريتانيا حتميا وهو ما لم يتوفر في بقية الوطن العربي.
**برأيك: ما العلاقة المثلى بين الجيش والسياسة؛ هل الأفضل هي الطريقة الموريتانية التي ينفتح فيها الجيش على السياسة وتياراتها، أم الأفضل أن يكون للجيش عقيدة سياسية محددة وتوجيه معنوي؟
- ذلك يكون حسب حالة الدولة، إذا ما تم وضع أسس نظام ديمقراطي عادل عندها يكون من الإيجابي تطوير الجيش إلى مؤسسة عسكرية بعيدة عن السياسة. أما إذا كانت الحالة على الذي نشهده في وطننا العربي على اختلاف أقطاره تقريبا، فلا شك أنها بحاجة إلى تدخل من أي نوع، ولا شك أن بقاء المؤسسة العسكرية غير معنية بالسياسة سيكون سلبيا، وأعتقد أن التأطير والتوجيه الذي تعرضت له الجيوش العربية أفقدها أي قدرة على الفعل السياسي، في ظل غياب أسس لنظام ديمقراطي حقيقي.
وبالتالي بقيت الوضعية السياسية بعيدة تمام عن أي تأثير محتمل للجيش وهو ما صار مصدر اطمئنان كبير للأنظمة الحاكمة الفاسدة في وطننا العربي.
**إذا سألتك كعسكري عن تكوينك الثقافي والفكري.. فأين تضع نفسك في الخريطة الفكرية والسياسة الموريتانية؟
- أنا من الجيل الذي تربى في موريتانيا متأثرًا بالمشروع الناصري وبأطروحات التيار القومي، لكنه أيضا كان جيلا منفتحا ومستعدا للتعامل مع جميع المعطيات الثقافية وهو ما سهل له التعاطي مع الإسلام الضارب بجذوره في هذا البلد، كما ساهمت التجربة في صقل هذا الجيل. والآن أرى نفسي جزءا من التيار القومي بنفس القدر الذي أنتمي به إلى التيار الإسلامي. وأؤمن بضرورة الجمع بين التيارين القومي والإسلامي لمواجهة جملة من التحديات الخطيرة التي تهدد الأمة والتي يصعب على أي من التيارين أن يواجهها منفردا ومستقلا عن الآخر، ولا أرى مخرجا للأزمة التي يعيشها الوطن العربي إلا بتوافق وتكاتف من التيارين القومي والإسلامي، وعليهما يمكن أن نعلق الرهان في خروج الأمة من مأزقها.
**وبمن تأثرت من المفكرين والسياسيين العرب؟
- أنا من الدارسين بشكل جيد – كما أسلفت- للتجربة الناصرية التي تعرفت عليها سواء من خلال التجربة المصرية أو عبر المفكرين الناصريين.. تأثرت كثيرا بمفكرين كبار مثل عصمت سيف الدولة، وعادل حسن، ومحمد عمارة، ومن تحولوا من اليسار إلى الإسلام، كما تأثرت أيضا بسيد قطب وحسن البنا، حتى الأفكار السلفية حاولت الانفتاح عليها. وأفضل دائما أن أكون منفتحا على كل هذه الأفكار.. أقرأ الشعر ولكنني لست من هواته.. والعسكر في بلادنا ليسوا بعيدين عن الثقافة والأدب.. كثير منهم مهتمون بالشعر والأدب مثل بقية الشعب، فموريتانيا هي بلد المليون شاعر كما هو معروف.
**كيف ترى هوية موريتانيا في ضوء ما عرف بـ "همزة الوصل" التي تقف فيها موريتانيا بين العروبة والإفريقية؟
- همزة الوصل هذه كانت من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها نظام المختار ولد داده، فموريتانيا لا يمكن أن تكون همزة وصل، بل هي جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية الإسلامية تمارس دورها انطلاقا من هذا الموقع بكل ما يتطلبه من مسئولية وقوة وانضباط والتزام بالخط العروبي الإسلامي.. وجودها كطرف في أقصى الوطن العربي واتصالها مع الجوار الإفريقي مباشرة يعطيها موقعا متميزا في التواصل الحضاري، لكن ليس من موقع همزة الوصل وإنما من موقع الفاعل وحامل الحضارة والقيم المتفاعل مع المحيط الإفريقي الإسلامي.
**وكيف ترون موضوع التطبيع مع إسرائيل؟
- هذه كانت وصمة عار في جبين السياسة الخارجية للنظام السابق خاصة أنه لم يكن هناك أي حاجة تستدعيها؛ حتى الولايات المتحدة لم تسع إلى فرض ذلك، بل لجأ إليها النظام السابق ظنا منه أنها قد توفر له غطاءا خارجيا لما وصل إليه من انهيار ونقمة داخلية.
وبرغم ذلك لم تسفر عن شيء ولم يجن من ورائها أي ربح لا من الولايات المتحدة ولا من الكيان الصهيوني، فكانت فضيحة للنظام البائد شوهت صورة بلاد الشناقطة عند العرب. وقد كان ذلك حاضرًا في وعينا حين تحركنا للانقلاب على نظام ولد الطايع، وأرى أنها فضيحة يجب إنهاؤها بكل سرعة.
**أحبك الموريتانيون.. وتغنى بك الناس واتخذك الشباب أسطورة لهم. ولكن لما جاءت الانتخابات لم يصوتوا لك، لماذا كانت قلوب الموريتانيين معك وسيوفهم مع ولد سيدي الشيخ عبد الله؟
- (ضاحكا أجاب). هذا طبيعي.. موريتانيا خضعت منذ الاستقلال لأنظمة عملت على تكريس القبلية والجهوية، ثم جاء نظام ولد الطايع وأضاف المنفعية السياسية، فعرفت البلاد ظاهرة السمسار السياسي وليس المناضل السياسي. والسمسار السياسي يتعامل مع جيبه قبل أفكاره وأطروحاته السياسية؛ لذلك ظلت البنى التقليدية متحلقة حول أشخاص بعينهم يتاجرون بها طوال خمسة عشر عاما مقابل أثمنة معينة.
لقد جاءت الانتخابات تعبيرا عن مدى تحكم هذه البنى التقليدية، أما ما خرج عن ذلك فهو في إطار هامش ضيق، ونحن لم نكن نتوقع أكثر مما حصلنا عليه في ظل تحكم هذه البنى التقليدية وتحكم رموز الفساد فيها واستغلال حالة الفقر مقابل فتات يحصل عليه الفقراء، لذا فقد كان التعاطف في جهة والصوت الانتخابي في جهة أخرى!
*مقابلة أجراها موفد شبكة إسلام أون لاين. نت مع "صالح ولد حننا" الجنرال السابق في الجيش الموريتاني وأشهر الانقلابيين في تاريخ البلاد.
هذا الرجل هو العقيد صالح ولد حننا الذي وإن لم يحصل على نسبة معتبرة في الانتخابات الرئاسية التي أنهت فترة المجلس العسكري الانتقالي، فهو بنظر غالبية الموريتانيين يعد بطلا قوميا وقائدا شجاعا، كان أول من وضع رأسه على كفه وقام بمحاولتين للتخلص من النظام البائد. وما زال الناس؛ خصوصا الشباب يرددون بإعجاب مرافعته التي ألقاها أمام المحكمة التي مثُل أمامها بعد القبض عليه إثر فشل محاولته الانقلابية الثانية عام 2004.
ويلاحظ الزائر ـ الذي لا تكتمل زيارته إلا بلقاء هذا الرجل ـ لموريتانيا أن صورة الشعب الموريتاني عن العسكري الانقلابي غير تلك التي نراها في بقية الوطن العربي؛ فهو ليس ذلك الرجل العابس ذو الحذاء الغليظ، والذي يتحسس مسدسه إذا سمع كلمة ثقافة أو مثقف ولا تعدو السياسة عنده إلا فرصة لا يمكن إلا أن ينتهزها لقلب طاولة المشهد السياسي لإعادة ترتيبه بما يجمع تحت يديه من خيوط السلطة ومقاليدها، فصورة العسكري الانقلابي في وعي الموريتانيين -كما تجتمع في شخص صالح ولد حننا- فيها من البطولة بل والأسطورية ما لن تجده في أي من أنحاء الوطن العربي أو إفريقيا.
وفيما يلي نص الحوار:
**هل العسكري الانقلابي في موريتانيا له خصوصية ما، أم أن في موريتانيا عسكر غير الذي يعرفه بقية الوطن العربي؟
- أود الإشارة إلى أن الحالة السياسية البائسة التي أفرزت الانقلابات العسكرية التي بدأتها جعلت كل الشعب الموريتاني ينتظر أي بصيص أمل ويتشبث بأي عمل وبأي شخص من شأنه أن يغير من تلك الحالة التي عرفناها في أثناء حكم ولد الطايع. وقد ساهمت محاولات الانقلاب التي لم تنجح وصراعنا السياسي مع النظام وظروف المحاكمات التي تعرضنا لها وما جرى فيها من مرافعات وتغطيات صحفية، في توضيح موقفنا وخلق صورة أوضح عنا كعسكر حاولنا الانقلاب على هذا النظام المستبد، ووضحت أهدافنا الحقيقية ومبادئنا التي حركتنا من أجل الشعب والوطن، وأوضحت أننا لم نسع إلى سلطة أو إلى مصلحة خاصة وإنما كنا مخلصين للبلاد والعباد، وهذه خصوصية حالتنا الانقلابية.
**ذكرتم في أثناء مرافعتكم أمام المحكمة بعد فشل محاولتكم الانقلابية عام 2004، أن الانقلاب هو نوع من العمل السياسي يلجأ إليه حين تغلق السياسة أبوابها. فهل هذا استدعاء مفتوح للعسكر في السياسة أم هو مرهون بلحظة الانغلاق التام للسياسة؟
- إذا ما وصل الانسداد السياسي إلى نهايته، وتعذر أي نوع من أنواع التأثير في السياسة بالوسائل الطبيعية والمعهودة، فلن يكون هناك إلا اللجوء إلى أنواع أخرى مثل تحريك الشارع أو العصيان المدني. ولما كان هذا صعبًا بل مستحيلا في ظروفنا خاصة مع طبيعة المجتمع الموريتاني وتركيبته، فلم يكن أمامنا إلا الانقلاب العسكري على هذه الأوضاع.
وأتذكر أن أحد القادة العسكريين كان يقول إن الحرب هي استمرار للدبلوماسية، ولكن بوسائل أخرى. وأنا أقول إن الانقلاب هو استمرار للسياسة إذا أغلقت أبوابها الطبيعية كاملة وإذا ما سدت جميع الأبواب أمام الفعل السياسي المؤثر.
**كيف رأيت انقلاب أغسطس 2005 الأخير الذي نجح بعد محاولتين فاشلتين قمت بهما؟
- أراه استمرارًا لنفس المسيرة التي بدأناها، ولكن الفارق أن الانقلاب نجح هذه المرة وتحققت أهدافه، وأنه كان لا بد أن يقع.
**وهل ترى أن التجربة الديمقراطية التي دشنها الانقلاب الأخير نجحت في تأسيس شرعية جديدة تغلق الباب أمام فكرة الانقلابات العسكرية؟
- إلى حد ما، غذ لا يمكن أن نقول إنه أسس لذلك بشكل نهائي؛ لأن العملية السياسية التي جرت تمت في ظروف ليست مثالية، وقد شهدت أخطاء كبيرة وتدخلا من المجلس العسكري فيها. وما آمله أن يتم تلافي ما جرى من أخطاء وتدخلات في الفترة القادمة التي أعتبرها هي الفترة الانتقالية الحقيقية وليست فترة التسعة عشر شهرا التي تلت الانقلاب العسكري الأخير. فما عشناه في فترة ما بعد الانقلاب العسكري ليس هو المرحلة الانتقالية بل كان مرحلة ترتيب لفترة انتقالية تبدأ بعد تولي الرئيس الجديد المنتخب مهامه وبدء تجربته التي ستكشف عما ستسير إليه التجربة.
وأتصور أن السنوات الخمس القادمة هي المختبر، فإذا ما استطاعت السلطة الجديدة تلافي الأخطاء وبداية عصر جديد فسيكون هذا بداية تأسيس الشرعية الجديدة التي تتحدث عنها والتي يمكن أن تغلق الباب نهائيا أمام فكرة الانقلاب العسكري في موريتانيا، وهذا منوط بتأسيس تجربة ديمقراطية حقيقية وبناء دولة العدل والمساواة والحرية.
وإذا حدث هذا فلن يكون هناك أي مبرر للانقلاب العسكري، وهذا ما نرجوه، لكن – وهذا خطر ما زال قائما- إذا ما حاول النظام القديم إعادة إنتاج نفسه مستغلا ما يعتبر أنه شرعية جديدة حصل عليها في الانتخابات الأخيرة، وحاول الاستمرار في نفس المحاولات وارتكاب نفس الانتهاكات واستدعاء وتمكين نفس الأشخاص الذين أفسدوا البلاد والعباد في فترة حكم ولد الطايع، فسيبقي خيار الانقلاب باقيا!
**في الخمس سنوات التي تقترحها سنوات انتقالية.. كيف تتصور الدور المفترض للعسكر والأفضل لهم: اجتناب السياسة وترك الفرصة للنظام الجديد أم يظل لهم دور الحارس للتجربة الديمقراطية استدعاءً للنموذج التركي؟
- المؤسسة العسكرية ليست لها أي شرعية في الوصاية على الدولة الموريتانية. وهي أنجزت مهمة تمثلت في إزالة نظام فاسد وظالم وأفسحت المجال للشعب ليحكم نفسه بنفسه. وليها أن تتوارى الآن لتترك للشعب أن يأخذ قراره ويمضي في تجربته. وكان عليها في أثناء قيام الشعب بممارسة خياره ألا تؤثر في نجاح شخص أو خسارة آخر وهو ما حصل فعلا. وعلى المؤسسة العسكرية أن تبتعد تمامًا الآن عن الشأن السياسي وأن تتفرغ لنفسها وتصلح وضعيتها الداخلية فقط؛ لأن الشأن السياسي يجب أن يترك للساسة فقط.
**وأين سيذهب العسكر برأيك؟
- على العسكر أن يعودوا إلى ثكناتهم ويتفرغوا للمهمة التي نذروا أنفسهم من أجلها ويتوقعها منهم الشعب الذي لا ينتظر منهم الآن أن يقوموا بأدوار الساسة.
**ولكن هل تتوقع أن يحدث ذلك فعلا وأن يتحرر النظام الجديد من وصاية العسكر؟
- هذا ما نرجوه، وأتوقع حسب الصورة التي تنقل لي عن الرئيس المنتخب أنه يمتلك القدرة والجرأة على إعادة العسكر إلى مكانهم الطبيعي وإلزامهم به، وهو أمر ليس سهلا ويحتاج شجاعة كبيرة، وعليه أن يقوم بمسئولياته كرئيس دولة له شرعية انتخابية ترفع عنه أي وصاية من أي جهة، حتى ولو كانت الجيش، لقد اختاره الشعب في انتخابات حرة عبر صناديق الانتخاب وليس لأحد منة عليه ولا فضل، كما ليس لأحد عليه وصاية إلا الشعب الذي اختاره، ويجب عليه أن يسخر نفسه لخدمة هذا الشعب.
**أشرتم إلى احتمال أن ينجح النظام القديم في إعادة إنتاج نفسه، هل هناك –بالفعل- احتمالية كبيرة لذلك؟ وما الحل لمنعه؟
- نعم.. هناك خطر ماثل فعلا من أن يعيد النظام البائد إنتاج نفسه، فالمجموعة التي تلتف حول الرئيس الجديد هي نفسها التي كانت حول الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع، وهذا النظام الذي يتشكل من جديد الآن ربما كان هو نفسه النظام السابق ولا يكاد ينقصه سوى شخص ولد الطايع فقط.
- والتحدي الحقيقي الآن هو: هل سيترك لهم الرئيس المنتخب الفرصة ليحكموا الطوق عليه ويهيمنوا على النظام كما كان الوضع مع الرئيس المخلوع، أم أنه سيتحرر من هؤلاء ويتحرك بناء على الشرعية التي اكتسبها من الشعب.. لا بد للرئيس المنتخب أن يتخلص من فكرة كون العسكر وأركان النظام السابق كان لهم نصيب أو دور في إنجاحه، فهو لم ينجح إلا بفارق ضئيل (53% فقط) والشرعية جاءته من شعبه، ولهذا السبب بالذات فقد اتخذنا في إطار ائتلاف قوى التغيير موقفا مبدئيا بمساعدته في التعامل مع قضايا البلاد المصيرية إذا ما أظهر توجها جادا بالاستقلال في إدارة أمور البلاد بعيدا عن رجال النظام السابق أو حتى المؤسسة العسكرية، وحتى نسهم في فك الحصار من حوله، حيث نعلم أنه محاصر الآن من قبلهم حتى لا يرى ولا يسمع ولا يفكر إلا كما يريدون له أن يرى ويسمع ويفكر، وهذا هو الخطر الحقيقي على موريتانيا، وعلى السيد الرئيس أن يستعد له وأن يعلم أنه إذا أعطاهم الفرصة فلن يوصلوه إلا لما أوصلوا إليه سلفه المخلوع ولد الطايع.
**في ضوء ما تقولون، لماذا إذن هذه الصورة الإيجابية لدى الموريتانيين عن العسكر برغم أن الجيش كان جزءًا من النظام الذي انقلب عليه؟ كيف استطاع الشعب التمييز بين رأس النظام وبين الجيش الذي هو أحد أدواته؟ وكيف نجح العسكر في التخلص من وصمة عصر ونظام كامل كانوا جزءا منه؟
- الشعب الموريتاني من أكثر شعوب الوطن العربي وربما العالم اهتماما بالسياسة، وهذا يعطيه قدرة على التمييز طبيعيا بين ما يراه صالحا وما يعتبره خطرا عليه، ثم إن التعميم ليس صوابا دائما، فالمؤسسة العسكرية في موريتانيا ليس كلها جزءا من هذا النظام أو ذاك، فهي عينة تعكس الشعب الموريتاني بتنوعاته المختلفة فيها وطنيون شرفاء وفيها أصحاب مصالح وفيها أنصار النظام المتكسبين منه وفيها معارضوه ومنتقدوه، وفي الجيش الموريتاني ستجد تقريبا كل التوجهات والتيارات الفكرية والسياسية في البلاد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وهناك إمكانية -بل هو الحادث فعلا- لحضور السياسة بين العسكريين في مستوياتهم المختلفة.
ومن المهم الإشارة إلى خصوصية موريتانية، فالجيش الموريتاني غير بقية الجيوش العربية ليس له عقيدة سياسية يصوغها عليه النظام الحاكم، وليس لدينا ما يعرف بإدارة التوجيه المعنوي على غرار ما كان موجودا في الاتحاد السوفيتي أو حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، الجيش الموريتاني خلا تماما من التوجيه السياسي في جميع الأنظمة السابقة، كما لم تهيمن عليه عقيدة سياسية معينة وظل دائما مفتوحًا لكل المؤثرات الفكرية والسياسية، سواء التي يتعرض لها العسكريون قبل دخولهم الجيش أو في أثناء وجودهم فيه، وهو ما جعله متداخلا مع الحالة السياسية في البلاد وغير مؤطر أو موجه لمصلحة النظام كما جعله لا يقف سلبيا أو على الحياد في القضايا السياسية والمصيرية.
**هل كان هذا سببًا في خصوصية التجربة الموريتانية؟
- بالتأكيد، الجيش الموريتاني لم يكن منفصلا أو متغيبا عن الأزمة السياسية وحالة الانهيار التي وصل إليها النظام السابق، وفكرة الانقلاب كانت موجودة داخل الجيش لتغيير الأوضاع حتى قبل المحاولتين اللتين قمت بهما للانقلاب، نحن تحركنا كانعكاس لرغبة داخل الجيش في المحاولتين لتغيير هذه الأوضاع البائسة، كما أن انقلاب أغسطس 2005 كان متوقعا بل شبه مقطوع به، بل وكان حدثا ينتظر الجميع وقوعه ولم يكن غريبا، فمشروعات حياد السلطة والحرية السياسية والانتخابات الديمقراطية... إلخ، كانت مشروعات مطروحة للنقاش قبل انقلاب 2005، وبالتالي كانت ستفرض نفسها على أي من وصل إلى السلطة ولو بانقلاب عسكري.
**لكن نفس الانسداد السياسي وأكثر منه نجده في بقية بلاد الوطن العربي الأخرى ولم تولد التجربة إلا في موريتانيا؟
- لقد حدث في الفترة من 2003 إلى 2005 ثلاثة انقلابات عسكرية، وهذا ما لم يشهده بلد عربي آخر. كان الشارع الموريتاني كله يغلي في الداخل، وكذلك الجاليات في الخارج أيضا كانت تقوم بدورها. ومن قاموا بانقلاب 2005 لم يكن ليفعلوا ذلك من دون حالة سياسية معارضة كالتي شهدتها موريتانيا.
وقناعتي أنهم لم يكونوا يفكرون في ذلك قبل محاولتي الانقلاب التي قمنا بها، ولكن المناخ السياسي فرض نفسه على الجيش وحركة الساحة السياسية في موريتانيا متقدمة بعكس ما هو حاصل في البلدان العربية الأخرى. الأوضاع البائسة قد تكون متشابهة بيننا وبين بقية بلدان الوطن العربي، لكن الفارق هو المناخ السياسي الدافع الذي جعل التدخل العسكري في موريتانيا حتميا وهو ما لم يتوفر في بقية الوطن العربي.
**برأيك: ما العلاقة المثلى بين الجيش والسياسة؛ هل الأفضل هي الطريقة الموريتانية التي ينفتح فيها الجيش على السياسة وتياراتها، أم الأفضل أن يكون للجيش عقيدة سياسية محددة وتوجيه معنوي؟
- ذلك يكون حسب حالة الدولة، إذا ما تم وضع أسس نظام ديمقراطي عادل عندها يكون من الإيجابي تطوير الجيش إلى مؤسسة عسكرية بعيدة عن السياسة. أما إذا كانت الحالة على الذي نشهده في وطننا العربي على اختلاف أقطاره تقريبا، فلا شك أنها بحاجة إلى تدخل من أي نوع، ولا شك أن بقاء المؤسسة العسكرية غير معنية بالسياسة سيكون سلبيا، وأعتقد أن التأطير والتوجيه الذي تعرضت له الجيوش العربية أفقدها أي قدرة على الفعل السياسي، في ظل غياب أسس لنظام ديمقراطي حقيقي.
وبالتالي بقيت الوضعية السياسية بعيدة تمام عن أي تأثير محتمل للجيش وهو ما صار مصدر اطمئنان كبير للأنظمة الحاكمة الفاسدة في وطننا العربي.
**إذا سألتك كعسكري عن تكوينك الثقافي والفكري.. فأين تضع نفسك في الخريطة الفكرية والسياسة الموريتانية؟
- أنا من الجيل الذي تربى في موريتانيا متأثرًا بالمشروع الناصري وبأطروحات التيار القومي، لكنه أيضا كان جيلا منفتحا ومستعدا للتعامل مع جميع المعطيات الثقافية وهو ما سهل له التعاطي مع الإسلام الضارب بجذوره في هذا البلد، كما ساهمت التجربة في صقل هذا الجيل. والآن أرى نفسي جزءا من التيار القومي بنفس القدر الذي أنتمي به إلى التيار الإسلامي. وأؤمن بضرورة الجمع بين التيارين القومي والإسلامي لمواجهة جملة من التحديات الخطيرة التي تهدد الأمة والتي يصعب على أي من التيارين أن يواجهها منفردا ومستقلا عن الآخر، ولا أرى مخرجا للأزمة التي يعيشها الوطن العربي إلا بتوافق وتكاتف من التيارين القومي والإسلامي، وعليهما يمكن أن نعلق الرهان في خروج الأمة من مأزقها.
**وبمن تأثرت من المفكرين والسياسيين العرب؟
- أنا من الدارسين بشكل جيد – كما أسلفت- للتجربة الناصرية التي تعرفت عليها سواء من خلال التجربة المصرية أو عبر المفكرين الناصريين.. تأثرت كثيرا بمفكرين كبار مثل عصمت سيف الدولة، وعادل حسن، ومحمد عمارة، ومن تحولوا من اليسار إلى الإسلام، كما تأثرت أيضا بسيد قطب وحسن البنا، حتى الأفكار السلفية حاولت الانفتاح عليها. وأفضل دائما أن أكون منفتحا على كل هذه الأفكار.. أقرأ الشعر ولكنني لست من هواته.. والعسكر في بلادنا ليسوا بعيدين عن الثقافة والأدب.. كثير منهم مهتمون بالشعر والأدب مثل بقية الشعب، فموريتانيا هي بلد المليون شاعر كما هو معروف.
**كيف ترى هوية موريتانيا في ضوء ما عرف بـ "همزة الوصل" التي تقف فيها موريتانيا بين العروبة والإفريقية؟
- همزة الوصل هذه كانت من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها نظام المختار ولد داده، فموريتانيا لا يمكن أن تكون همزة وصل، بل هي جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية الإسلامية تمارس دورها انطلاقا من هذا الموقع بكل ما يتطلبه من مسئولية وقوة وانضباط والتزام بالخط العروبي الإسلامي.. وجودها كطرف في أقصى الوطن العربي واتصالها مع الجوار الإفريقي مباشرة يعطيها موقعا متميزا في التواصل الحضاري، لكن ليس من موقع همزة الوصل وإنما من موقع الفاعل وحامل الحضارة والقيم المتفاعل مع المحيط الإفريقي الإسلامي.
**وكيف ترون موضوع التطبيع مع إسرائيل؟
- هذه كانت وصمة عار في جبين السياسة الخارجية للنظام السابق خاصة أنه لم يكن هناك أي حاجة تستدعيها؛ حتى الولايات المتحدة لم تسع إلى فرض ذلك، بل لجأ إليها النظام السابق ظنا منه أنها قد توفر له غطاءا خارجيا لما وصل إليه من انهيار ونقمة داخلية.
وبرغم ذلك لم تسفر عن شيء ولم يجن من ورائها أي ربح لا من الولايات المتحدة ولا من الكيان الصهيوني، فكانت فضيحة للنظام البائد شوهت صورة بلاد الشناقطة عند العرب. وقد كان ذلك حاضرًا في وعينا حين تحركنا للانقلاب على نظام ولد الطايع، وأرى أنها فضيحة يجب إنهاؤها بكل سرعة.
**أحبك الموريتانيون.. وتغنى بك الناس واتخذك الشباب أسطورة لهم. ولكن لما جاءت الانتخابات لم يصوتوا لك، لماذا كانت قلوب الموريتانيين معك وسيوفهم مع ولد سيدي الشيخ عبد الله؟
- (ضاحكا أجاب). هذا طبيعي.. موريتانيا خضعت منذ الاستقلال لأنظمة عملت على تكريس القبلية والجهوية، ثم جاء نظام ولد الطايع وأضاف المنفعية السياسية، فعرفت البلاد ظاهرة السمسار السياسي وليس المناضل السياسي. والسمسار السياسي يتعامل مع جيبه قبل أفكاره وأطروحاته السياسية؛ لذلك ظلت البنى التقليدية متحلقة حول أشخاص بعينهم يتاجرون بها طوال خمسة عشر عاما مقابل أثمنة معينة.
لقد جاءت الانتخابات تعبيرا عن مدى تحكم هذه البنى التقليدية، أما ما خرج عن ذلك فهو في إطار هامش ضيق، ونحن لم نكن نتوقع أكثر مما حصلنا عليه في ظل تحكم هذه البنى التقليدية وتحكم رموز الفساد فيها واستغلال حالة الفقر مقابل فتات يحصل عليه الفقراء، لذا فقد كان التعاطف في جهة والصوت الانتخابي في جهة أخرى!
*مقابلة أجراها موفد شبكة إسلام أون لاين. نت مع "صالح ولد حننا" الجنرال السابق في الجيش الموريتاني وأشهر الانقلابيين في تاريخ البلاد.