سيد نزيلي
يُنسَب إلى الشيخ محمد عبده أنه عندما عاد من فرنسا بعد أن مكث هناك فترة (مبعدًا) أنه قال "رأيت هناك إسلامًا ولم أجد مسلمين ونجد هنا- يقصد في بلاد العرب والمسلمين- مسلمين ولا نجد إسلامًا".
ويفهم من ذلك أن صفة (الإسلام) التي تخلع على الفرد أو الجماعة أو الأمة إنما يجب أن يكون لها واقع ملموس في معترك الحياة وفي منهج السلوك وفي منظومة القيم والأخلاق والتعامل اليومي، ذلك أن الإسلام يدعو إلى البر والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.. يدعو الإسلام إلى الفضيلة والطهر.. ونقصد الطهر أو التطهر الروحي والمعنوي وكذلك الحسّي المادي.. يدعو إلى البذل والعطاء والرحمة والحب الفيَّاض للإنسان وكل خلق الله حتى الجماد "أُحُد جبل نحبه ويحبنا".. يدعو إلى نظافة الإنسان والبيئة وطهارة المكان والأقوال والأفعال.
وأحسب أن الإمام الشيخ محمد عبده قد هاله ما رأى في فرنسا من سلوكيات وأخلاق هي في الأصل إسلامية المنبت والأصل ثم غابت عن حياة المسلمين فترة؛ بسبب عوامل كثيرة من الغفلة وتحوُّل القلوب، وتسلُّط الاستبداد والقهر، والاستكانة للظلم، وكذلك الجهل والتجهيل والإبعاد المتعمَّد عن رحاب الدين الحقيقي، الذي يحفز الهمم، ويدفع إلى تحسين ظروف الحياة، ويرفع من مستوى الشعور والرغبة في تغيير الحياة الراكدة والآسنة إلى واقع أفضل وأكرم؛ بحيث تشارك الأمة في صنع الحضارة التي كان لها فيما سبق دورٌ رائدٌ في صُنعها منذ أن جاء الإسلام وإلى أن زالت هيبة المسلمين في الواقع الدولي، ومعروفٌ أن التغيير له قوانينه ومرتكزاته ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
وهذا العلاج الرباني لتغيير واقع المسلمين يقضي بأن يعودوا إلى ربهم ومنهجهم وقرآنهم، يستلهمون منه عناصر القوة، وشحذ الهمة، والتماس التقدم العلمي والتقني؛ ليكونوا في مصافِّ الأمم الناهضة والقوى الفاعلة التي لها دورٌ بارزٌ في إدارة شئون العالم الآن، وتساهم في إبراز دور حضارة جديد قديم، تُزاوِج بين المادة والروح، وتربط بين واقع الأرض ووحي السماء، حضارة عنوانها ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77).
وهذه مقدمة لموضوع قد أثير في وسائل الإعلام منذ أسبوع أو منذ أن بدأ الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" يلملم أشياءه ومتاعه ويغادر قصر "الإليزيه".. قصر الحكم والأبَّهة والفخفخة والجاه العريض والسلطان الواسع، وهو إذ يغادر هذا القصر لم يذهب إلى قصر آخر يمتلكه أو فيلا ضخمة في أرقى أحياء باريس الفخمة، وإنما إلى شقة بسيطة متواضعة كان يمتلكها قبل رئاسته للجمهورية، كتب عقدَها- أو أهداها- إلى ابنته، ولما رأى واحدٌ من آل الحريري في لبنان حال شيراك التي تدعو إلى الرثاء تبرَّع له بمسكن أو شقة تصل قيمتها إلى عدة ملايين من الدولارات، وهذه الحكاية تكاد تصفعنا، وتهزُّ أعماقنا وتدمغنا، وتكشف عيوبنا، وتضع أيدينا على جرحنا العميق الذي لا يكاد يندمل.
ومشاكلنا المستعصية التي لا نكاد نصل معها إلى دواء ناجع أو حلٍّ ناجز أو شفاء دائم أننا في بلاد العرب والمسلمين لا نكاد نصل إلى جزء يسير مما وصل إليه أهل الغرب، من نزاهة ونظافة وشفافية وبُعد عن الحرام.. إلخ.
إن النموذج الذي نحن بصدده هو بالفعل نموذج إسلامي مبني على خلُق إسلامي، حتى ولو كان صاحبه "أو أصحابه" غير مسلمين.. هذا النموذج نفتقده في واقع حياتنا العملي، ونسأل عن سبب غيابه في الواقع والسلوك؟!
ولن نستطيع أن نصل إلى ذلك بمجرد سوق الكلام المنمَّق والحديث النظري عن العفة عن المال العام، أو الزهد عما في يد الناس، أو القناعة بأن ما عند الله خير وأبقى، وغير ذلك من المواعظ والإرشادات التي لا تخاطب إلا ذوي القلوب الحية والنفوس العالية التي تتأصَّل في أعماقها تربيةٌ إيمانيةٌ عميقةٌ وفهمٌ للإسلام دقيقٌ وعملٌ له متواصلٌ ومستمرٌّ، مهما كانت العقبات أو الأشواك، وافتقادنا للمناخ الإسلامي والجو الإيماني في حياتنا اليومية المعاشة هو الذي يقلِّل من فرصة ظهور النماذج الطيبة التي تستعلي على متاع الدنيا وترف الشهوات.
وإشارتنا إلى نموذج "جاك شيراك" لا نعني به رجال الحكم والسلطة في كل بلاد العرب والمسلمين فقط، وإنما نتجاوزه إلى كل ذي وظيفة أو سلطة عامة من "الخفير" إلى "الوزير"، ومن الجندي إلى القائد، ومن الموظَّف البسيط إلى المدير الكبير.
وعندما يعود أحد الصحابة إلى المدينة المنورة وكان واليًا على البحرين ويقول في حضرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذا لي وهذا لكم- يقصد الأموال- فيرد عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحسمٍ نادرٍ، ويفهمه أن هذا المال الذي يزعم أنه له إنما جاءه بحكم وظيفته واليًا، وأنه لو جلس في بيته أو بيت أهله ما كان يصل إليه شيءٌ، إذن.. فالمال الذي يتحصَّله بجاه الوظيفة والمنصب إنما هو مال المسلمين ويجب أن يعود إليهم.
ويؤدي بنا ذلك إلى مبدأ "من أين لك هذا؟!" الذي طبَّقه المسلمون، وخاصةً على مَن تُسنَد إليهم وظائف عامة، وشبيه بهذا المطالبة بإقرار "الذمة المالية" لمعرفة مفردات مالية الشخص قبل قيامه بالوظيفة العامة، وكشف ما يكون قد اعترى حياتَه في نهاية خدمته الحكومية، مِن تضخُّمٍ في ثروته أو تغيُّر وطفرة في أوضاعه المالية في أخريات حياته الوظيفية العامة.
وقضية التعفُّف عن المال العام كانت على مدار تاريخ الحكام المسلمين وذوي السلطة فيهم هي الأصل والمرجع، وكانت تطبَّق بشكل تلقائي فطري لشدة الخوف من الله ودوام مراقبته، وللخوف الشديد من العقاب يوم الحساب ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ (الإنسان: 10).
فهذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان نبيَّ أمة ورئيس دولة في المدينة المنورة، يروي البخاري عن عمر بن الحارث قال: "ما ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند موته دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمَةً ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء التي يركبها، وسلاحه، وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقةً".. كما روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- قالت: "توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رقٍّ لي".
وهذا أبو بكر الصديق خليفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عندما حضرته الوفاة يأمر بردِّ بعض الأواني التي كان قد استعارَها من بيت مال المسلمين حتى يلقَى الله وقد بَرِئت ذمتُه من المال العام، وقد كان قبل توليه الحكم ذا مال، وكان أكثر المسلمين سخاءً وكرمًا، حتى إنه جاء بماله كله عند تجهيز جيش العسرة ويقول لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لقد أبقيت لهم الله ورسوله؛ حيث لم يترك لأولاده شيئًا، ثم هو- رضي الله عنه- يكتفي براتب قليل عند توليه الخلافة ويموت على ذلك.
وهذا عمر بن عبدالعزيز الملقَّب بـ"الخليفة الراشد الخامس" يقولون له عند وفاته- ولم يترك لأولاده شيئًا-: لقد ضيَّعتَ أولادَك فيردّ عليهم: "ما منعتهم حقًّا هو لهم، وما كنت أعطيهم شيئًا ليس لهم" ولم تكن التركة التي تركها إلا دراهم معدودة، وببركة هذه التقوى والتورُّع عن المال العام فإن الله قد أكرم أبناءه الصالحين، وزادت ثرواتهم ونمَت ولكن بالحلال، وبعد وفاة أبيهم، وبعيدًا عن شبهة استغلال النفوذ والمنصب.
وهذا البطل المجاهد محرر القدس الشريف صلاح الدين الأيوبي يموت بعد حياة حافلة بالجهاد والتجهيز والإعداد لإخراج الصليبيين من القدس، بعد أن ظلَّ احتلالهم له أكثر من تسعين عامًا.. ها هو يموت بعد هذا النصر وليس في بيته إلا دراهم معدودات.
ونحن لا نقلل من شأن نموذج جاك شيراك ولا نستهين به أمام النماذج العظيمة في تاريخنا الإسلامي الحافل، بل نكبر خلقه وسلوكه وطهارة يده، ونشيد به، ونتمنَّى أن يكون كل ذوي الشأن والسلطان فينا على شاكلته.
ويقينًا فإن العودة إلى الله وتحرير النية والإرادة وخشية الله في السر والعلن وابتغاء الدار الآخرة.. كل ذلك ومثله كفيل بانبعاث نماذج رائدة وقيادات فريدة.
والله من وراء القصد.
نقلا: إخوان أون لاين - 14/05/2007
يُنسَب إلى الشيخ محمد عبده أنه عندما عاد من فرنسا بعد أن مكث هناك فترة (مبعدًا) أنه قال "رأيت هناك إسلامًا ولم أجد مسلمين ونجد هنا- يقصد في بلاد العرب والمسلمين- مسلمين ولا نجد إسلامًا".
ويفهم من ذلك أن صفة (الإسلام) التي تخلع على الفرد أو الجماعة أو الأمة إنما يجب أن يكون لها واقع ملموس في معترك الحياة وفي منهج السلوك وفي منظومة القيم والأخلاق والتعامل اليومي، ذلك أن الإسلام يدعو إلى البر والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.. يدعو الإسلام إلى الفضيلة والطهر.. ونقصد الطهر أو التطهر الروحي والمعنوي وكذلك الحسّي المادي.. يدعو إلى البذل والعطاء والرحمة والحب الفيَّاض للإنسان وكل خلق الله حتى الجماد "أُحُد جبل نحبه ويحبنا".. يدعو إلى نظافة الإنسان والبيئة وطهارة المكان والأقوال والأفعال.
وأحسب أن الإمام الشيخ محمد عبده قد هاله ما رأى في فرنسا من سلوكيات وأخلاق هي في الأصل إسلامية المنبت والأصل ثم غابت عن حياة المسلمين فترة؛ بسبب عوامل كثيرة من الغفلة وتحوُّل القلوب، وتسلُّط الاستبداد والقهر، والاستكانة للظلم، وكذلك الجهل والتجهيل والإبعاد المتعمَّد عن رحاب الدين الحقيقي، الذي يحفز الهمم، ويدفع إلى تحسين ظروف الحياة، ويرفع من مستوى الشعور والرغبة في تغيير الحياة الراكدة والآسنة إلى واقع أفضل وأكرم؛ بحيث تشارك الأمة في صنع الحضارة التي كان لها فيما سبق دورٌ رائدٌ في صُنعها منذ أن جاء الإسلام وإلى أن زالت هيبة المسلمين في الواقع الدولي، ومعروفٌ أن التغيير له قوانينه ومرتكزاته ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
وهذا العلاج الرباني لتغيير واقع المسلمين يقضي بأن يعودوا إلى ربهم ومنهجهم وقرآنهم، يستلهمون منه عناصر القوة، وشحذ الهمة، والتماس التقدم العلمي والتقني؛ ليكونوا في مصافِّ الأمم الناهضة والقوى الفاعلة التي لها دورٌ بارزٌ في إدارة شئون العالم الآن، وتساهم في إبراز دور حضارة جديد قديم، تُزاوِج بين المادة والروح، وتربط بين واقع الأرض ووحي السماء، حضارة عنوانها ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77).
وهذه مقدمة لموضوع قد أثير في وسائل الإعلام منذ أسبوع أو منذ أن بدأ الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" يلملم أشياءه ومتاعه ويغادر قصر "الإليزيه".. قصر الحكم والأبَّهة والفخفخة والجاه العريض والسلطان الواسع، وهو إذ يغادر هذا القصر لم يذهب إلى قصر آخر يمتلكه أو فيلا ضخمة في أرقى أحياء باريس الفخمة، وإنما إلى شقة بسيطة متواضعة كان يمتلكها قبل رئاسته للجمهورية، كتب عقدَها- أو أهداها- إلى ابنته، ولما رأى واحدٌ من آل الحريري في لبنان حال شيراك التي تدعو إلى الرثاء تبرَّع له بمسكن أو شقة تصل قيمتها إلى عدة ملايين من الدولارات، وهذه الحكاية تكاد تصفعنا، وتهزُّ أعماقنا وتدمغنا، وتكشف عيوبنا، وتضع أيدينا على جرحنا العميق الذي لا يكاد يندمل.
ومشاكلنا المستعصية التي لا نكاد نصل معها إلى دواء ناجع أو حلٍّ ناجز أو شفاء دائم أننا في بلاد العرب والمسلمين لا نكاد نصل إلى جزء يسير مما وصل إليه أهل الغرب، من نزاهة ونظافة وشفافية وبُعد عن الحرام.. إلخ.
إن النموذج الذي نحن بصدده هو بالفعل نموذج إسلامي مبني على خلُق إسلامي، حتى ولو كان صاحبه "أو أصحابه" غير مسلمين.. هذا النموذج نفتقده في واقع حياتنا العملي، ونسأل عن سبب غيابه في الواقع والسلوك؟!
ولن نستطيع أن نصل إلى ذلك بمجرد سوق الكلام المنمَّق والحديث النظري عن العفة عن المال العام، أو الزهد عما في يد الناس، أو القناعة بأن ما عند الله خير وأبقى، وغير ذلك من المواعظ والإرشادات التي لا تخاطب إلا ذوي القلوب الحية والنفوس العالية التي تتأصَّل في أعماقها تربيةٌ إيمانيةٌ عميقةٌ وفهمٌ للإسلام دقيقٌ وعملٌ له متواصلٌ ومستمرٌّ، مهما كانت العقبات أو الأشواك، وافتقادنا للمناخ الإسلامي والجو الإيماني في حياتنا اليومية المعاشة هو الذي يقلِّل من فرصة ظهور النماذج الطيبة التي تستعلي على متاع الدنيا وترف الشهوات.
وإشارتنا إلى نموذج "جاك شيراك" لا نعني به رجال الحكم والسلطة في كل بلاد العرب والمسلمين فقط، وإنما نتجاوزه إلى كل ذي وظيفة أو سلطة عامة من "الخفير" إلى "الوزير"، ومن الجندي إلى القائد، ومن الموظَّف البسيط إلى المدير الكبير.
وعندما يعود أحد الصحابة إلى المدينة المنورة وكان واليًا على البحرين ويقول في حضرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذا لي وهذا لكم- يقصد الأموال- فيرد عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحسمٍ نادرٍ، ويفهمه أن هذا المال الذي يزعم أنه له إنما جاءه بحكم وظيفته واليًا، وأنه لو جلس في بيته أو بيت أهله ما كان يصل إليه شيءٌ، إذن.. فالمال الذي يتحصَّله بجاه الوظيفة والمنصب إنما هو مال المسلمين ويجب أن يعود إليهم.
ويؤدي بنا ذلك إلى مبدأ "من أين لك هذا؟!" الذي طبَّقه المسلمون، وخاصةً على مَن تُسنَد إليهم وظائف عامة، وشبيه بهذا المطالبة بإقرار "الذمة المالية" لمعرفة مفردات مالية الشخص قبل قيامه بالوظيفة العامة، وكشف ما يكون قد اعترى حياتَه في نهاية خدمته الحكومية، مِن تضخُّمٍ في ثروته أو تغيُّر وطفرة في أوضاعه المالية في أخريات حياته الوظيفية العامة.
وقضية التعفُّف عن المال العام كانت على مدار تاريخ الحكام المسلمين وذوي السلطة فيهم هي الأصل والمرجع، وكانت تطبَّق بشكل تلقائي فطري لشدة الخوف من الله ودوام مراقبته، وللخوف الشديد من العقاب يوم الحساب ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ (الإنسان: 10).
فهذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان نبيَّ أمة ورئيس دولة في المدينة المنورة، يروي البخاري عن عمر بن الحارث قال: "ما ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند موته دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمَةً ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء التي يركبها، وسلاحه، وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقةً".. كما روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- قالت: "توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رقٍّ لي".
وهذا أبو بكر الصديق خليفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عندما حضرته الوفاة يأمر بردِّ بعض الأواني التي كان قد استعارَها من بيت مال المسلمين حتى يلقَى الله وقد بَرِئت ذمتُه من المال العام، وقد كان قبل توليه الحكم ذا مال، وكان أكثر المسلمين سخاءً وكرمًا، حتى إنه جاء بماله كله عند تجهيز جيش العسرة ويقول لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لقد أبقيت لهم الله ورسوله؛ حيث لم يترك لأولاده شيئًا، ثم هو- رضي الله عنه- يكتفي براتب قليل عند توليه الخلافة ويموت على ذلك.
وهذا عمر بن عبدالعزيز الملقَّب بـ"الخليفة الراشد الخامس" يقولون له عند وفاته- ولم يترك لأولاده شيئًا-: لقد ضيَّعتَ أولادَك فيردّ عليهم: "ما منعتهم حقًّا هو لهم، وما كنت أعطيهم شيئًا ليس لهم" ولم تكن التركة التي تركها إلا دراهم معدودة، وببركة هذه التقوى والتورُّع عن المال العام فإن الله قد أكرم أبناءه الصالحين، وزادت ثرواتهم ونمَت ولكن بالحلال، وبعد وفاة أبيهم، وبعيدًا عن شبهة استغلال النفوذ والمنصب.
وهذا البطل المجاهد محرر القدس الشريف صلاح الدين الأيوبي يموت بعد حياة حافلة بالجهاد والتجهيز والإعداد لإخراج الصليبيين من القدس، بعد أن ظلَّ احتلالهم له أكثر من تسعين عامًا.. ها هو يموت بعد هذا النصر وليس في بيته إلا دراهم معدودات.
ونحن لا نقلل من شأن نموذج جاك شيراك ولا نستهين به أمام النماذج العظيمة في تاريخنا الإسلامي الحافل، بل نكبر خلقه وسلوكه وطهارة يده، ونشيد به، ونتمنَّى أن يكون كل ذوي الشأن والسلطان فينا على شاكلته.
ويقينًا فإن العودة إلى الله وتحرير النية والإرادة وخشية الله في السر والعلن وابتغاء الدار الآخرة.. كل ذلك ومثله كفيل بانبعاث نماذج رائدة وقيادات فريدة.
والله من وراء القصد.
نقلا: إخوان أون لاين - 14/05/2007