شغُف أشقاؤنا العرب كثيرا بما دار في بلادنا في الفترة الاخيرة. ولا غرو،
فقد كنا نحن في صحرائنا، بواد غير ذي زرع، نرفل في أثواب الفرح، سكاري في
غمرة العرس الديمقراطي الذي شد أنظار العالم إلينا، بينما كانوا هم في
شامهم الفيحاء يصوتون في انتخابات محسومة سلفا في برلمان سورية، ويجادلون
في تعديلات صورية علي الدستور في مصر، هبة النيل.
كتبوا عنا إعجابا
بتجربتنا وإكبارا لها. كتب عبد الوهاب قتاية في صحيفة العربي المصرية
مشيدا بالتجربة باعتبارها إنجازا رائعا غير مألوف، حققته سلطة عربية
شريفة، وشعب عربي واع، رغم ما يحيط به ويثقل كاهله من ضغوط وظروف سياسية
واقتصادية وحضارية وطبيعية قاسية . وكتبت إيمان القويفلي في صحيفة الوطن
السعودية أن العقيد علي ولد محمد فال هو الحل . وقال عبد الباري عطوان إن
الانقلاب ألقي صخرة كبيرة في مؤسسة القمة العربية الراكدة المتعفنة . ونعت
المفكر فهمي هويدي، في صحيفة الشرق الأوسط التجربة بأنها ( مهزلة يحلم بها
كل عربي!). وقال الصادق المهدي رئيس وزراء السودان الأسبق عن العقيد فال
ورفاقه بأنهم نقلوا بلادهم من حكم الإكراه والطوارئ إلي الشرعية
الديمقراطية . وحده العقيد القذافي من أنكر علينا ووصف التجربة بأنها لعب
أطفال لإرضاء السفارات الغربية. أما الآخرون، فإما أعربوا عن الإعجاب أو
كتموا الإعجاب في صدورهم وأعينهم تفيض بالدمع.
لن أدافع عن الأخ الثائر
لأنني لا أحب من يبقي في السلطة لولايتين أحري من يمكث فيها أربعين سنة
إلا قليلا. ولأنني فضلا عن ذلك لا أحب كثيرا أهل السلطة أيا كانوا. لكن ما
قاله نبي الصحراء، كما لقبه أحدهم، لا يخلو من بعض الحقائق الجزئية التي
أذابتها الأفران العالية في موسم الاحتفالات الديمقراطية.
كيف جاء العقيد فال؟
من
يذكرون أحداث انقلاب 8 حزيران/يونيو 2003 الفاشل وما بعدها، يذكرون أن
قليلا من أشقائنا العرب من اهتم بالشأن الموريتاني أكثر من التفاتة متهكمة
لسرد التاريخ الإنقلابي في موريتانيا. أما انقلاب آب/أغسطس 2005 فكان
مدخلا تاريخيا لتغيير النظام العربي القائم. إذ كان ثاني مرة يعد فيها
قائد انقلاب بتسليم السطلة لمدنيين ويفي بوعده.
من باب الأمانة
التاريخية، أقول إن الفكرة تعود لصاحب الإنقلاب الفاشل. ولعل التسجيل
السمعي البصري لخطابه الذي كان من المقرر أن يلقيه لا يزال متاحا في موقع
وكالة الأخبار الموريتانية المستقلة. أما ما قام به العقيد فال فهو تطبيق
ذلك الخطاب بروحه وأحيانا بنصه، مزيدا بحنكة تراكمت لدي المسؤول الأول عن
الأمن لعقدين متتاليين من الزمن. وما من خلاف في أن روحه الوطنية العالية
هي التي دفعت به إلي المجازفة وتولي الأمر بنفسه. لكن ما من خلاف أيضا في
أن موظفَا عامَا تقدر ثروته الشخصية بملايين الدولارات لا بد أن تكون لديه
حسابات أخري. هذه الحسابات هي ما سندفع ثمنه نحن بعد أن اكتملت عملية
الغسل الكبري في نهر غانغز المقدس، علي الطريقة الهندية.
معالم في الطريق:
كاد
العقيد فال ألاّ يفي بوعده، بل وكاد ينجح في تلك المخالفة. فعندما وصل إلي
السلطة قام بتعليق الدستور والمؤسسات الدستورية القائمة، وأصدر ميثاقا
دستوريا يُدير بموجبه المجلس العسكري البلاد في الفترة الانتقالية. أصدر
قانونا يمنع أعضاء المجلس العسكري والحكومة من الترشح في الانتخابات أثناء
الفترة الانتقالية. وفتح أياما تشاورية مع الفاعلين السياسيين أفضت إلي
تعديلات دستورية كانت مطلبا للجميع قبل وقوع الإنقلاب. لكن شيئا واحدا لم
يقم به رغم أنه كان مناسبا: ألا وهو حل الحزب الجمهوري الحاكم (حزب الرئيس
المطاح به معاوية). لم يحله لأنه استغله أول مرة لتنظيم مسيرات حاشدة
تأييدا للمجلس العسكري، واستغله ثانيا ليوعز إلي معظم قياداته الفاسدة
بالترشح بصفة مستقلة ليكون البرلمان الجديد علي ما هو عليه: أغلبية مطلقة
بين كتلة المستقلين ونواب الحزب الجمهوري لوحدهما.
وعندما اقتربت ساعة
الحقيقة، كاد يترشح، بل إنه استعان بكهنة القانون الدستوري ليفسروا
القانون المانع للترشح بأنه يقتصر فقط علي أعضاء المجلس والحكومة وليس
مانعا لرئيس المجلس. تم ذلك في السر أو علي الأقل دون مجاهرة. أما ما قاله
نهارا جهارا فهو تفسيره الخاص للقانون الانتخابي، صدع به في قصر المؤتمرات
قائلا وباللغة الفرنسية حتي لا يخونه التعبير لن يكون رئيسا لموريتانيا من
لم يحصل علي 50 في المائة من الأصوات داعيا في الوقت نفسه الناخبين إلي
التصويت بالحياد بل وإلي إساءة استعمال التصويت بالحياد، أي الإفراط في
ذلك طمعا في أن يكون ذلك بمثابة سحب للثقة من المترشحين الـ19 ويكون هو
الضرورة التي يريدها الشعب.
وفي خضم الفترة الانتقالية أيضا، والكلام
علي عهدة رئيس البرلمان الحالي، مسعود ولد بلخير لإحدي الفضائيات العربية،
حاول العقيد فال تمديد الفترة الانتقالية مقابل عرض رئاسة الوزراء علي
زعيم المعارضة أحمد ولد داداه.
ولما فشلت تلك المساعي، ولم يعد هناك بد
من الوفاء، والفضل في ذلك يرجع إلي الإعلام العربي الذي أحرجه بالترويج
لأعماله البطولية ولقيادته للنظام العربي الجديد، أقدم علي ترشيح وكيل عنه
وصفه أحدهم بما يسمي المحلل الشرعي .
صحيح أن الاقتراع في حد ذاته كان
سليما من الناحية التقنية (الفنية) بفضل بطاقة التعريف الوطنية غير
القابلة للتزوير من جهة ولشدة الاستقطاب فيما بين المرشحين الذين قارب
عددهم العشرين. لكن المال السياسي، كما صرح بذلك رئيس حزب اتحاد قوي
التقدم أفسد العمل السياسي في البلاد. والمال السياسي هو ما كان يدفعه
المجلس العسكري لمرشحهم بالوكالة. وقد أسف لذلك كثيرا، في تصريح لمجلة جون
آفريك ، مسعود ولد بلخير، الرئيس الحالي للبرلمان والمعارض السابق الذي
دعم مرشح العسكر في الشوط الثاني، لكنه لم يستطع مع ذلك السكوت عن قول
الحق.
الوصاية
تخيل معي أحداث المشهد التالي: تصور أنك كنت تمشي
علي رصيف مبلل، مثقلا بما تحمله من أغراض، فتعثرت رجلاك، وكدت تقع علي
وجهك قبل أن يمسك بك أحد المارة فينقذك من وقعة قد لا تستقيم بعدها واقفا.
ردة
فعلك الأولي هي أن تبادر بالشكر والتعبير عن الامتنان لمن أنقذك. لن تبخل
عليه بعبارة من عبارات الثناء، ولن تنسي لوقت طويل، بل وربما إلي الأبد،
شجاعة موقفه وطيبة نفسه.
لكن عندما يصر الشخص الذي ساعدك علي أن يرافقك
إلي باب بيتك خوفا من أن تقع ثانية، ثم يرابط أمام بيتك ليرافقك في صبيحة
اليوم التالي إلي مكتبك حرصا علي ألا تقع أيضا، ويظل يرقبك كلما مررت
ليقوم بالشيء نفسه، فإن الموقف سيختلف كثيرا. سيسكُنك الخوف من ذلك الشخص،
وستندم علي اليوم الذي جمعك به رصيف واحد، بل قد تتمني لو سقطت يومها رأسا
وكسرت ثنِيّتك، بل وتكسرت أسنانك كلها.
هذا ما قام به المجلس العسكري
للعدالة والديمقراطية. ساعد الوطن في ظرف عصيب، ثم أطبق علي مفاصله كلها
وتولي رعايته بنفسه. فحتي بعد الانتخابات الحرة النزيهة وبعد حل المجلس
العسكري لنفسه ـ مع أني لا أذكر قرارا رسميا بذلك ـ وبعد أن غادر رئيسه
السلطة وعاد إلي بيته (بيت مال المسلمين) ظل بقية أعضاء المجلس الآخرين
وعددهم 16 عقيدا ممسكين بالحياة السياسية في البلاد. فما معني أن يزول رأس
جبل الجليد ويبقي الجبل مطمورا تحت سطح الماء؟
علي أعضاء المجلس أن يختاروا بين أمرين:
(أ)
بين أن يقول لهم الشعب شكرا لكم، لقد أنقذتمونا. إنكم قد قدمتم خدمة جليلة
للوطن لن يحتاجكم بعدها في أمر أعظم ولا أجل. شكرا لكم، فأنتم رموز
الإنقاذ، كنتم تمثلون أعلي سلطة تنفيذية وتشريعية في البلد ـ بموجب
الميثاق الدستوري للمجلس العسكري ـ ولن نقبل أن تنزلوا أو يُنزلكم أحد
منزلة دون ذلك. شكرا علي خدماتكم للوطن.
(ب) وبين أن يقول لهم، إنكم
تذكّروننا بالشخص أعلاه شديد الحرص علي المساعدة إلي درجة بات فيها أمره
مريبا ومخيفا، فلا تكلفوا أنفسكم مشقة المساعدة. دعونا وشأننا. دعوا رئيس
الجمهورية المنتخب، ودعوا مؤسساتنا الدستورية المنتخبة تحكمنا. دعونا
نسائله إن أخطأ أو نطيعه إن أصاب.
أتمني صادقا أن يسمعوا القول الأول،
لكنني أكاد أجزم أن الخيار الثاني سيكون السبيل الوحيد، ومع ذلك أتمني أن
أكون مخطئا في التقدير: من أجل الوطن.
توماني توري
الذين عرفوا
العقيد فال وخبروه عن قرب أشادوا بحبه الشديد للمطالعة. فقد كتب عنه
الكاتب الموريتاني المقتدر، السيد ولد أباه، في صحيفة الشرق الأوسط (العدد
10370 بتاريخ 20 نيسان/أبريل 2007) ما يلي: اكتسب ولد محمد فال عادة
الإقبال والقراءة في أوقات فراغه، التي لم تفارقه الي اليوم، قرأ في سنوات
الدراسة روايات الأدب الفرنسي الكلاسيكية، وغُرم بكتب التاريخ وسير الساسة
والقادة، وفُتن بفكر التنوير الفرنسي وأعمال الفلاسفة . وبما أنني لست
أعرف الرجل عن قرب، فلن أستطيع أن أنكر ذلك رغم أن أحدا لم يعثر له علي
مقال ولا بحث ولا كتاب منشور خلال ما يزيد علي الـ30 سنة الماضية. أما ما
أستطيع أن أجزم به فهو أن اطلاعه علي سير الساسة والقادة قد شمل علي الأقل
تجربتين سبقتاه: التجربة السودانية والتجربة المالية. ذلك أنه سافر إلي
السودان، وأقام علاقة دبلوماسية كاملة مع هذا القطر الشقيق وافتتتح به أول
سفارة لرعاية المصالح الموريتانية (الإشارة خاصة بالقارئ الموريتاني). فلا
بد أن يكون قد اطلع علي التجارب السودانية من قبل. أما اطلاعه علي التجربة
المالية، فأمر بديهي نظرا لعلاقات الجوار بيننا وبين هذا البلد المسالم،
ونظرا أيضا إلي أنه زار ذلك البلد والتقي بصاحب التجربة نفسه، توماني
توري، وصلّيا جميعا في صحراء مالي خلف العقيد القذافي ذات عيد.
ولتذكير
القارئ العربي، فتوماني توري هو رئيس اللجنة العسكرية الانتقالية لخلاص
الشعب التي أطاحت بنظام موسي تراوري في آذار/مارس 1991 ونظمت مؤتمرا وطنيا
دام أسبوعين كاملين تلته انتخابات تشريعية ورئاسية شفافة، لزمت فيها
الحياد، وفاز فيها الفا عمر كوناري، المفوض الحالي للاتحاد الأفريقي، الذي
احتفظ بالسلطة لولايتين. ثم جاء توماني توري، الذي خلعوا عليه ذات يوم لقب
جندي الديمقراطية (le soldat de la dژmocrat!e) ليرشح نفسه في أيار/مايو
عام 2002، ويفوز في الشوط الثاني/ (جولة الإعادة) بنسبة 65 في المائة، ثم
يطيب له المقام فيترشح لانتخابات نيسان/أبريل 2007 ويفوز في الشوط الأول
(الجولة الأولي) بنسبة فاقت 70 في المائة وسط احتجاجات أبناء بلده
واتهامهم له بالتزوير الفاحش.
أكاد أجزم قاطعا أن التجربة الأخيرة هي ما يستهوي المجلس العسكري المتحكم سابقا والحاكم حاليا من خلف الستار.
ملكة بريطانيا
نقلت
صحيفة أخبار نواكشوط في طبعتها الفرنسية قول زعيم أحد الأحزاب السياسية،
لعله مصطفي عبيد الرحمن، أثناء آخر اجتماع تنسيقي لكتلة المعارضة سابقا،
إن ثمة مخاوف من تأكد أنباء تفيد بأن مجلسا أعلي للدفاع الوطني سيتم
إنشاؤه قريبا. وهذا الحدث، وإن كان مؤشرا حقيقيا علي أن العسكر لم يخرجوا
بعد من دائرة الحكم ومصصمون علي الاحتفاظ به، إلا أنه قد سبقه مؤشر ثان لا
يقل أهمية هو تعيين الحكومة الجديدة التي أشبه ما توصف به هو حكومة تصريف
الأعمال أو مجموعة المجندين الـ28 حسب تعبير صحيفة القلم الموريتانية. ذلك
أنها باستثناء أربع حقائب أسندت إلي حزب سياسي بعينه، تشكلت في معظمها من
وزراء بوزن رؤساء أقسام. صحيح أنها، من باب الأمانة، قد خلت إلا قليلا من
الأوجه أو الرؤوس التي يطلق عليها في المعجم السياسي الموريتاني رموز
الفساد، وأنها تشكلت من شباب يحملون في المتوسط خمس شهادات جامعية ويجيدون
أربع لغات في المتوسط، حسبما ذكره موقع صحيفة أخبار نواكشوط شبه الرسمي.
لكن من يحس بدقة المرحلة وحجم الملفات التي ورثتها عن الحكومة الانتقالية
الأولي مثل قضايا حقوق الإنسان المعقدة ومسائل التعليم والصحة، فضلا عن
الفساد المالي والإداري، يدرك أن المقصود منها هو تصريف الأعمال لا غير.
أي مراوحة الأحوال مكانها إلي حين قيام المسيح، مخلّص الأمة، العقيد فال،
ليتولي الأمر بيده. لكن ما ذا لو فاجأنا رئيسنا المنتخب وأمسك بزمام
المبادرة؟ هذا ما نتمناه صادقين، لكننا نعتقد أن ذلك لن يتحقق إلا بتحقق
شروط ثلاثة هي:
(1) إحالة جميع أعضاء المجلس العسكري إلي التقاعد، دون
استثناء. وهذا هو الشرط الذي يشكل المدخل الطبيعي لاستعادة حرية القرار،
ويطمئن معه المواطن الموريتاني إلي أن أحدا لم يعد يتقاسم السلطة مع
الرئيس الذي انتخبوه وفوّضوه وحده بالتصرف باسمهم. وعلاوة علي ذلك فهو
الدليل الوحيد الذي يثبت به أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلي للقوات
المسلحة.
(2) حل الحكومة الانتقالية الثانية وتشكيل حكومة وحدة وطنية
من الأحزاب والشخصيات السياسية الوطنية تكون قادرة علي تصفية الملفات
العالقة ووضع أسس حقيقية للعمل السياسي في البلاد.
(3) أما الشرط
الثالث فهو شرط كفاية قد لا يلزم لو تحقق الشرطان الأولان، وهو سن قانون
يحجب أهلية الترشح لمنصب رئيس الجمهورية عن كل من استولي علي السلطة عن
طريق انقلاب.
باحث وأكاديمي
الخليل ولد مامون