شرطيات موريتانيا.. الأيدي الناعمة لتنظيم المرور
سعيد ولد حبيب
الشرطية الموريتانية حبيبة
واجهت
"حبيبة" 23 عامًا انتقادات الأقارب ونظرات المجتمع الساخرة لدخولها سلك
الشرطة الوطنية. بالتحمل والصبر حرصت على أن تلبس الثوب العسكري بطريقة
تضمن ستر جسدها. وقفت في وسط الشارع بملابس عسكرية، وبحزام أبيض، وقبعة
شرطة المرور، تلوح بيدها الناعمة، وتنفخ في صفاراتها لتنظيم حركة المرور
في العاصمة الموريتانية نواكشوط.
"حبيبة" واحدة من العسكريات
الموريتانيات اللاتي واجهن المجتمع ووقفن إلى جانب الرجل للقيام بمسئوليات
تتطلب مجهودًا وانتظارًا طويلاً يبدأ من التقدم بالأوراق والوثائق؛
للمشاركة في امتحان اكتتاب العسكريات، ولا ينتهي عند البدء في العمل
اليومي الذي تمليه ضرورة تنفيذ الأوامر العسكرية من ذوي الرتب الأعلى درجة.
الدفعة الأولى
في نهاية العقد الأخير من القرن المنصرم،
أقدمت السلطات الموريتانية على اكتتاب مجموعة من النساء في جهاز الشرطة
الوطنية، وجاء اكتتاب تلك المجموعة المكونة من عشر نساء برتبة ضابط، بهدف
تعزيز الرقابة في المطارات تحديدًا، بعد أن تزايدت عمليات تهريب المخدرات
بطرق مبتكرة، أبرزها التمرير بواسطة نساء يضعنها في مناطق حساسة من
أجسادهن، موهمات رجال الأمن بأنهن في حالة حمل تارة، وأحيانًا يضعن كميات
من مادة "الهيروين" داخل الفوط النسائية الخاصة بالدورة الشهرية.
وقد ظهرت أول دفعة من ضابطات الشرطة
الموريتانيات في الاستعراض العسكري الخاص بالذكرى الأربعين لعيد الاستقلال
عام 2000، وبعد ذلك بدأت عمليات اكتتاب الشابات الموريتانيات في جهاز
الشرطة تتسع لتشمل قطاعات المرور، والحراسة الأمنية، موازاة مع دخولهن
صفوف الجيش، والدرك، والحرس، والبحرية مع نهاية السنة السابقة..
بدأت السلطات السياسية الموريتانية منذ عقد
من الزمن انتهاج سياسة تقوم على إشراك المرأة الموريتانية في شغل الوظائف
العمومية وإنهاء احتكار الرجال للمسئوليات..
وركزت السلطات على ما أسماه ساستها "تغيير
العقليات السائدة" التي تعيق ولوج النساء مراكز القرار والوظائف
العمومية.. وطيلة العشرية الأخيرة ظلت المرأة حاضرة في كل التشكيلات
الحكومية.. مع التركيز على سياسة تربوية تفرض الرفع من نسبة (تمدرس)
البنات "وفي إطار التحضير لتجنيد المرأة المفاجئ تم إدراج مادة التربية
المدنية في جميع المستويات الدراسية، على حساب مادة التربية الإسلامية"
حسب بعض المقللين من شأن التوجه الجديد.
والواقع أن هذه السياسة الجديدة نجحت إلى حد
كبير في كسر الحواجز الاجتماعية التي كانت تمنع المرأة من تقلد المناصب أو
شغل أعمال أو وظائف تتطلب جهدًا جسديًّا، وهي حواجز ظلت راسخة في المجتمع
الموريتاني المحافظ لعقود طويلة من الزمن.
وهكذا لم يَعُد وجود النساء في المؤسسات
العمومية، أو على رأس المقاولات الخصوصية، وفي المعارض التجارية الوطنية
والدولية يثير الاهتمام، بل وصل الأمر حد ترشح النساء لرئاسة البلديات
وللمقاعد البرلمانية، وحتى لرئاسة الجمهورية كما حدث في انتخابات نوفمبر
2003 الرئاسية.
بيد أن الأمر الأكثر إثارة للجدل كان دخول
النساء صفوف القوات المسلحة وقوات الأمن، وعلى نطاق واسع خلال السنوات
الأخيرة، في غياب الحملات الدعائية التي ترافق عادة مثل هذه التطورات
الحساسة، والمثيرة لمشاعر مجتمع صحراوي بدوي محافظ، كالمجتمع الموريتاني
الذي يدين جميع أفراده بالإسلام.
مشهد غير مألوف
وحدة من سرايا المرافقات
خضعت العناصر النسوية المكتتبة في صفوف الجيش
والحرس والدرك والبحرية للتدريبات العسكرية الضرورية لانخراطهن في الحياة
العسكرية التي تتطلب مجهودًا عضليًّا يصعب على "الجنس اللطيف" تحمله،
خصوصًا في المجتمع الموريتاني المعروف بتدليله للمرأة وتكريس الكسل لديها.
غير أن الطبيعة العسكرية جدًّا لمكونات
القوات المسلحة، وما يحيط بها من سرية تامة، ساهمت إلى حد كبير في تجاوز
الجنديات والدركيات والحرسيات لأهم العقبات المعنوية التي اعترضت سبيل
الشرطيات، وبدرجة أقل الجمركيات، فالطابع الحضري للشرطة جعل "نساء الأمن"
يواجهن يوميًّا نظرة المجتمع غير المتقبلة -أصلاً- لهذا الوضع الجديد،
والمندهشة كثيرًا من تواجد النساء على مفترقات الطرق بملابس عسكرية،
وبأحزمة بيضاء، وقبعات شرطة المرور، وهن يلوحن بأيديهن الناعمات، وينفخن
في صفاراتهن لتنظيم حركة السير المزدحمة في نواكشوط.. "مشهد مغاير تمامًا
لما ألفه سكان العاصمة من قبل؛ إذ كان هؤلاء ينظرون للنساء الملتحفات
(نسبة لارتداء الملحفة) على أرصفة الشوارع نظرة ازدراء باعتبارهن عارضات
أجساد إن لم نقل بائعات هوى"، حسب الكاتب الصحفي الموريتاني أحمد يعقوب
سيدي!.
تعامل السكان مع مشهد شرطيات المرور بنوع من
الاحترام المشوب بالاستهجان والاستغراب، فأصحاب السيارات يلتزمون بتوجيهات
نساء الشرطة أكثر من زملائهن الرجال "الذين درجوا على تعاطي الرشوة
وابتزاز السائقين، خاصة سائقي سيارات النقل العمومي، وهو ما جعل أغلب
هؤلاء يرفضون التوقف عند نقاط التفتيش.."، حسب سائق التاكسي الشاب سالم
الناجي.
ويبدو أن مرد هذا التعاطي الإيجابي مع
شرطيات المرور يعود إلى فضول أصحاب السيارات ومعظمهم من "الجنس الخشن"،
حيث يتوقفون عند فرقة التفتيش النسائية بانضباط تام، ويقدمون لهن وثائق
سياراتهم دون تردد.. مستغلين لحظة التفتيش؛ ليتأملوا هذه الشابة التي
ترتدي ملابس الشرطة التي ترسم أهم معالم جسدها..
وقد سجلت مواقف تدل على عدم تقبل
الموريتانيين الكامل لظاهرة النساء الشرطيات، ولعل من أبرز تلك المواقف
على سبيل المثال تقديم أحد أصحاب السيارات كافة أوراق سيارته لإحدى
الشرطيات، وبعد أن انتهت من فحصها، وتأكدت من سلامتها، أعادتها إليه،
ليفاجئها بتقديم جواز سفره، وبطاقة هويته، وبطاقته المهنية، فيما يبدو
أنها خطوة "معاكسة" تهدف لإطالة وجود الشرطية إلى جانبه، ومن تلك المواقف
كذلك أن أحد السائقين اصطدمت سيارته بالدائرة الإسفلتية التي تقف عليها
إحدى شرطيات المرور، بعد أن كان نظره منصبًّا على محاسن الشرطية.. ونزلت
الشرطية خوفًا على حياتها، لكن الرجل سارع بدعوتها لإجراء المعاينة
القانونية، وتحديد المسئولية عن الحادث..
إحدى الشرطيات فوجئت وهي تفتش أوراق إحدى
السيارات بشابة أنيقة تجلس إلى جانب صاحب السيارة الذي تعرفت عليه الشرطية
باعتباره زوج إحدى قريباتها، فما كان منها إلا أن همست إليه -متهمة إياه
بالخيانة- قائلة: "سأدع زوجتك تكمل التفتيش معك هذه الليلة في البيت".
السلطات العمومية تدرك صعوبة مهمة الشرطيات،
حيث تحصر نشاطهن داخل العاصمة، وتنأى بهن عن نقاط التفتيش خارج المدينة،
وعند مداخلها؛ ليبقى من اختصاص رجال الأمن.. وحتى بالنسبة للتفتيش وتنظيم
المرور، يوجد رجل شرطة على الأقل ضمن كل فرقة تضم عناصر نسوية.
العرف والشرع والثورة
العرف في المجتمع الموريتاني يضع المرأة في
دائرة ضيقة، تتمثل في حصر دورها في الحياة على مسئولياتها المنزلية
المتمثلة في رعاية الأطفال والعناية بالزوج..
وظل المجتمع -على غرار جُل المجتمعات العربية- يرفع شعار "المرأة من بيتها
إلى قبرها"، معتبرًا أن خروج المرأة عن هذا المسار انحلال أخلاقي وتجاوز
للخطوط الاجتماعية الحمراء.. وتعتبر أية امرأة تمارس نشاطًا غير رعاية
الأطفال والعناية بالبيت جديرة بالنبذ والعزلة، باعتبارها مصدر عار
لمحيطها الأسري والقبلي، وحتى الاجتماعي.
وكانت المرأة تخضع منذ ولادتها لحمية غذائية
مضاعفة لضمان بنية جسدية سمينة تسرع من زواجها، بعيدًا عن التعليم أو
التدريب المهني، ومع التطور الذي عرفه المجتمع الموريتاني بفعل المدنية
المتزايدة والاحتكاك بالثقافات الأخرى، وتتبع السياسات الاقتصادية
والاجتماعية القائمة على الإصلاحات الهيكلية والليبرالية اللامحدودة التي
تفرضها مؤسسات التمويل الدولية، ومن ورائها القوى السياسية الغربية،
الراعية والداعمة لتحرر المرأة من كل القيود الاجتماعية والدينية، وحتى
القانونية أحيانًا، مع هذا الضغط الكبير بدأت النساء الموريتانيات تخترقن
الدائرة الضيقة للعرف الاجتماعي، وتفرضن أمرًا واقعًا جديدًا، يتمثل في
ولوجهن مختلف حقول النشاط، جنبًا إلى جنب مع الرجال.. "لقد انهارت خطوط
المجتمع الحمراء تحت طائلة عوامل التحولات المختلفة، وأذعن المجتمع لإرادة
التحرر الجارفة لدى المرأة الموريتانية..."، بحسب المصطفى بدر الدين أمين
سر الحزب الاشتراكي الموريتاني.
وفي المقابل بدا الشارع غير متحمس كثيرًا
لهذا الدور الجديد للمرأة في موريتانيا الإسلامية 100%.. مع أنه لم يتجرأ
أي من علماء الشريعة والفقه الإسلامي في موريتانيا على تقديم فتوى شرعية
حول تجنيد النساء، وفيما التزم غالبية رجال الدين الصمت حول هذه
"النازلة"، أفتى الفقيه البارز محمد المختار رئيس المجلس الإسلامي الأعلى
بـ"عدم جواز عمل المرأة في الشرطة والجيش..".
وتبدو العسكريات اللواتي خضن تجربة العمل
واثقات من خطواتهن وتعتبرن ما حدث ثورة على النمطية التي اعتاد المجتمع
الموريتاني عليها بخصوص بنات حواء، وتؤكدن أن العمل كله شرف، وأن مسعاهن
للعمل عبر قطاعات لم تكن معهودة في السابق ينمّ عن قناعة تامة.
وعلى الرغم من كل هذه العقبات والصعاب،
أثبتت النساء الشرطيات كفاءة غير متوقعة في أداء المهام الموكلة لهن.. حيث
قادت ضابطات شرطة موريتانيات عمليات متابعة لعصابات إجرامية، تكللت
بالنجاح، كما أظهرت نتائج التحقيقات التي يشرف عليها "الجنس اللطيف"
فعالية أكثر من تلك التي يشرف عليها ضباط شرطة من "الجنس الخشن".
سعيد ولد حبيب
الشرطية الموريتانية حبيبة
واجهت
"حبيبة" 23 عامًا انتقادات الأقارب ونظرات المجتمع الساخرة لدخولها سلك
الشرطة الوطنية. بالتحمل والصبر حرصت على أن تلبس الثوب العسكري بطريقة
تضمن ستر جسدها. وقفت في وسط الشارع بملابس عسكرية، وبحزام أبيض، وقبعة
شرطة المرور، تلوح بيدها الناعمة، وتنفخ في صفاراتها لتنظيم حركة المرور
في العاصمة الموريتانية نواكشوط.
"حبيبة" واحدة من العسكريات
الموريتانيات اللاتي واجهن المجتمع ووقفن إلى جانب الرجل للقيام بمسئوليات
تتطلب مجهودًا وانتظارًا طويلاً يبدأ من التقدم بالأوراق والوثائق؛
للمشاركة في امتحان اكتتاب العسكريات، ولا ينتهي عند البدء في العمل
اليومي الذي تمليه ضرورة تنفيذ الأوامر العسكرية من ذوي الرتب الأعلى درجة.
الدفعة الأولى
في نهاية العقد الأخير من القرن المنصرم،
أقدمت السلطات الموريتانية على اكتتاب مجموعة من النساء في جهاز الشرطة
الوطنية، وجاء اكتتاب تلك المجموعة المكونة من عشر نساء برتبة ضابط، بهدف
تعزيز الرقابة في المطارات تحديدًا، بعد أن تزايدت عمليات تهريب المخدرات
بطرق مبتكرة، أبرزها التمرير بواسطة نساء يضعنها في مناطق حساسة من
أجسادهن، موهمات رجال الأمن بأنهن في حالة حمل تارة، وأحيانًا يضعن كميات
من مادة "الهيروين" داخل الفوط النسائية الخاصة بالدورة الشهرية.
وقد ظهرت أول دفعة من ضابطات الشرطة
الموريتانيات في الاستعراض العسكري الخاص بالذكرى الأربعين لعيد الاستقلال
عام 2000، وبعد ذلك بدأت عمليات اكتتاب الشابات الموريتانيات في جهاز
الشرطة تتسع لتشمل قطاعات المرور، والحراسة الأمنية، موازاة مع دخولهن
صفوف الجيش، والدرك، والحرس، والبحرية مع نهاية السنة السابقة..
بدأت السلطات السياسية الموريتانية منذ عقد
من الزمن انتهاج سياسة تقوم على إشراك المرأة الموريتانية في شغل الوظائف
العمومية وإنهاء احتكار الرجال للمسئوليات..
وركزت السلطات على ما أسماه ساستها "تغيير
العقليات السائدة" التي تعيق ولوج النساء مراكز القرار والوظائف
العمومية.. وطيلة العشرية الأخيرة ظلت المرأة حاضرة في كل التشكيلات
الحكومية.. مع التركيز على سياسة تربوية تفرض الرفع من نسبة (تمدرس)
البنات "وفي إطار التحضير لتجنيد المرأة المفاجئ تم إدراج مادة التربية
المدنية في جميع المستويات الدراسية، على حساب مادة التربية الإسلامية"
حسب بعض المقللين من شأن التوجه الجديد.
والواقع أن هذه السياسة الجديدة نجحت إلى حد
كبير في كسر الحواجز الاجتماعية التي كانت تمنع المرأة من تقلد المناصب أو
شغل أعمال أو وظائف تتطلب جهدًا جسديًّا، وهي حواجز ظلت راسخة في المجتمع
الموريتاني المحافظ لعقود طويلة من الزمن.
وهكذا لم يَعُد وجود النساء في المؤسسات
العمومية، أو على رأس المقاولات الخصوصية، وفي المعارض التجارية الوطنية
والدولية يثير الاهتمام، بل وصل الأمر حد ترشح النساء لرئاسة البلديات
وللمقاعد البرلمانية، وحتى لرئاسة الجمهورية كما حدث في انتخابات نوفمبر
2003 الرئاسية.
بيد أن الأمر الأكثر إثارة للجدل كان دخول
النساء صفوف القوات المسلحة وقوات الأمن، وعلى نطاق واسع خلال السنوات
الأخيرة، في غياب الحملات الدعائية التي ترافق عادة مثل هذه التطورات
الحساسة، والمثيرة لمشاعر مجتمع صحراوي بدوي محافظ، كالمجتمع الموريتاني
الذي يدين جميع أفراده بالإسلام.
مشهد غير مألوف
وحدة من سرايا المرافقات
خضعت العناصر النسوية المكتتبة في صفوف الجيش
والحرس والدرك والبحرية للتدريبات العسكرية الضرورية لانخراطهن في الحياة
العسكرية التي تتطلب مجهودًا عضليًّا يصعب على "الجنس اللطيف" تحمله،
خصوصًا في المجتمع الموريتاني المعروف بتدليله للمرأة وتكريس الكسل لديها.
غير أن الطبيعة العسكرية جدًّا لمكونات
القوات المسلحة، وما يحيط بها من سرية تامة، ساهمت إلى حد كبير في تجاوز
الجنديات والدركيات والحرسيات لأهم العقبات المعنوية التي اعترضت سبيل
الشرطيات، وبدرجة أقل الجمركيات، فالطابع الحضري للشرطة جعل "نساء الأمن"
يواجهن يوميًّا نظرة المجتمع غير المتقبلة -أصلاً- لهذا الوضع الجديد،
والمندهشة كثيرًا من تواجد النساء على مفترقات الطرق بملابس عسكرية،
وبأحزمة بيضاء، وقبعات شرطة المرور، وهن يلوحن بأيديهن الناعمات، وينفخن
في صفاراتهن لتنظيم حركة السير المزدحمة في نواكشوط.. "مشهد مغاير تمامًا
لما ألفه سكان العاصمة من قبل؛ إذ كان هؤلاء ينظرون للنساء الملتحفات
(نسبة لارتداء الملحفة) على أرصفة الشوارع نظرة ازدراء باعتبارهن عارضات
أجساد إن لم نقل بائعات هوى"، حسب الكاتب الصحفي الموريتاني أحمد يعقوب
سيدي!.
تعامل السكان مع مشهد شرطيات المرور بنوع من
الاحترام المشوب بالاستهجان والاستغراب، فأصحاب السيارات يلتزمون بتوجيهات
نساء الشرطة أكثر من زملائهن الرجال "الذين درجوا على تعاطي الرشوة
وابتزاز السائقين، خاصة سائقي سيارات النقل العمومي، وهو ما جعل أغلب
هؤلاء يرفضون التوقف عند نقاط التفتيش.."، حسب سائق التاكسي الشاب سالم
الناجي.
ويبدو أن مرد هذا التعاطي الإيجابي مع
شرطيات المرور يعود إلى فضول أصحاب السيارات ومعظمهم من "الجنس الخشن"،
حيث يتوقفون عند فرقة التفتيش النسائية بانضباط تام، ويقدمون لهن وثائق
سياراتهم دون تردد.. مستغلين لحظة التفتيش؛ ليتأملوا هذه الشابة التي
ترتدي ملابس الشرطة التي ترسم أهم معالم جسدها..
وقد سجلت مواقف تدل على عدم تقبل
الموريتانيين الكامل لظاهرة النساء الشرطيات، ولعل من أبرز تلك المواقف
على سبيل المثال تقديم أحد أصحاب السيارات كافة أوراق سيارته لإحدى
الشرطيات، وبعد أن انتهت من فحصها، وتأكدت من سلامتها، أعادتها إليه،
ليفاجئها بتقديم جواز سفره، وبطاقة هويته، وبطاقته المهنية، فيما يبدو
أنها خطوة "معاكسة" تهدف لإطالة وجود الشرطية إلى جانبه، ومن تلك المواقف
كذلك أن أحد السائقين اصطدمت سيارته بالدائرة الإسفلتية التي تقف عليها
إحدى شرطيات المرور، بعد أن كان نظره منصبًّا على محاسن الشرطية.. ونزلت
الشرطية خوفًا على حياتها، لكن الرجل سارع بدعوتها لإجراء المعاينة
القانونية، وتحديد المسئولية عن الحادث..
إحدى الشرطيات فوجئت وهي تفتش أوراق إحدى
السيارات بشابة أنيقة تجلس إلى جانب صاحب السيارة الذي تعرفت عليه الشرطية
باعتباره زوج إحدى قريباتها، فما كان منها إلا أن همست إليه -متهمة إياه
بالخيانة- قائلة: "سأدع زوجتك تكمل التفتيش معك هذه الليلة في البيت".
السلطات العمومية تدرك صعوبة مهمة الشرطيات،
حيث تحصر نشاطهن داخل العاصمة، وتنأى بهن عن نقاط التفتيش خارج المدينة،
وعند مداخلها؛ ليبقى من اختصاص رجال الأمن.. وحتى بالنسبة للتفتيش وتنظيم
المرور، يوجد رجل شرطة على الأقل ضمن كل فرقة تضم عناصر نسوية.
العرف والشرع والثورة
العرف في المجتمع الموريتاني يضع المرأة في
دائرة ضيقة، تتمثل في حصر دورها في الحياة على مسئولياتها المنزلية
المتمثلة في رعاية الأطفال والعناية بالزوج..
وظل المجتمع -على غرار جُل المجتمعات العربية- يرفع شعار "المرأة من بيتها
إلى قبرها"، معتبرًا أن خروج المرأة عن هذا المسار انحلال أخلاقي وتجاوز
للخطوط الاجتماعية الحمراء.. وتعتبر أية امرأة تمارس نشاطًا غير رعاية
الأطفال والعناية بالبيت جديرة بالنبذ والعزلة، باعتبارها مصدر عار
لمحيطها الأسري والقبلي، وحتى الاجتماعي.
وكانت المرأة تخضع منذ ولادتها لحمية غذائية
مضاعفة لضمان بنية جسدية سمينة تسرع من زواجها، بعيدًا عن التعليم أو
التدريب المهني، ومع التطور الذي عرفه المجتمع الموريتاني بفعل المدنية
المتزايدة والاحتكاك بالثقافات الأخرى، وتتبع السياسات الاقتصادية
والاجتماعية القائمة على الإصلاحات الهيكلية والليبرالية اللامحدودة التي
تفرضها مؤسسات التمويل الدولية، ومن ورائها القوى السياسية الغربية،
الراعية والداعمة لتحرر المرأة من كل القيود الاجتماعية والدينية، وحتى
القانونية أحيانًا، مع هذا الضغط الكبير بدأت النساء الموريتانيات تخترقن
الدائرة الضيقة للعرف الاجتماعي، وتفرضن أمرًا واقعًا جديدًا، يتمثل في
ولوجهن مختلف حقول النشاط، جنبًا إلى جنب مع الرجال.. "لقد انهارت خطوط
المجتمع الحمراء تحت طائلة عوامل التحولات المختلفة، وأذعن المجتمع لإرادة
التحرر الجارفة لدى المرأة الموريتانية..."، بحسب المصطفى بدر الدين أمين
سر الحزب الاشتراكي الموريتاني.
وفي المقابل بدا الشارع غير متحمس كثيرًا
لهذا الدور الجديد للمرأة في موريتانيا الإسلامية 100%.. مع أنه لم يتجرأ
أي من علماء الشريعة والفقه الإسلامي في موريتانيا على تقديم فتوى شرعية
حول تجنيد النساء، وفيما التزم غالبية رجال الدين الصمت حول هذه
"النازلة"، أفتى الفقيه البارز محمد المختار رئيس المجلس الإسلامي الأعلى
بـ"عدم جواز عمل المرأة في الشرطة والجيش..".
وتبدو العسكريات اللواتي خضن تجربة العمل
واثقات من خطواتهن وتعتبرن ما حدث ثورة على النمطية التي اعتاد المجتمع
الموريتاني عليها بخصوص بنات حواء، وتؤكدن أن العمل كله شرف، وأن مسعاهن
للعمل عبر قطاعات لم تكن معهودة في السابق ينمّ عن قناعة تامة.
وعلى الرغم من كل هذه العقبات والصعاب،
أثبتت النساء الشرطيات كفاءة غير متوقعة في أداء المهام الموكلة لهن.. حيث
قادت ضابطات شرطة موريتانيات عمليات متابعة لعصابات إجرامية، تكللت
بالنجاح، كما أظهرت نتائج التحقيقات التي يشرف عليها "الجنس اللطيف"
فعالية أكثر من تلك التي يشرف عليها ضباط شرطة من "الجنس الخشن".