فُجع العالم العربي بخبر انتحار وزير الزراعة الياباني إثر تورطه في قضية مالية.
ولم يكن سبب تلك الفجيعة هو الصدمة من تورط وزيرٍ في فضيحة، ولكن
السبب هو اختلاف منهج العرب في مواجهة الفساد عن منهج اليابانيين،
فاليابانيون لا يرحمون الفاسدين، ولا يتهاونون مع الفساد؛ بل يضربون على
أيدي كل من يخون الأمانة، ولا يسمحون له أن ينعم بفساده، أو أن يفَّر به.
إن نظرة المجتمع الياباني للمسؤول الفاسد نظرة شديدة الاحتقار؛ لذا
فإن من يتورط من المسئولين في أي فضيحة يعلم أنه قد جاء كبيرة من الكبائر
بالنسبة لمجتمعه؛ ومن ثَمَّ فإنه لا يجرؤ على تخيل الحياة وسط هذا المجتمع
مرة أخرى، بينما تتراوح نظرة المجتمع العربي - في عمومه - بين السلبية؛
حيث إنه لا يستطيع محاسبة ذلك المسؤول - وبين الإعجاب المفضي للتقليد؛
تمامًا كما صوَّر الشاعر ذلك الوضع بقوله:
إذا كان رَبُّ البيتِ بالدُّفِّ ضاربًا فشيمةُ أهلِ البيتِ كلِّهم الرقصُ
ولا شك أن منهج اليابان في مقاومة الفساد هو أحد أسباب تفوقها على
الأمم، وهذه سنة إلهية لا تتخلف ولا تتبدل، كما أنه لا شك في أن تهاون
العالم العربي مع الفساد والفاسدين من أهم أسباب تخلُّفه، ففي العالم
العربي حيث يرتع الفاسدون، يصبح الفساد هو القاعدة، والصلاح والطهارة هما
الاستثناء، ويتبجح الفاسد بفساده؛ حيث يدرك أنه لن يحاسبه أحد.
إن ما أصاب العالم العربي من فسادٍ شديدٍ نخر في عظامه كان كفيلًا
بأن يصبح العالم العربي في ذيل دول العالم من حيث الصلاح والشفافية، ويشهد
على ذلك تقرير الشفافية الدولية لعام 2006م؛ حيث جاءت أولى الدول العربية
في المركز الحادي والثلاثين على مستوى العالم من حيث الشفافية وهي دولة
الإمارات العربية بدرجة (6.2) من عشرة وهي كما نلاحظ درجة متدنية للغاية،
بينما حصل أغلب الدول العربية على أقل من خمس درجات، وهي درجة تبين كيف
استشرى الفساد في البلاد العربية، وما ذلك إلا لشيوع التستر على الفساد في
هذه الدول.
إن التاريخ ليشهد على سقوط الأمم الفاسدة بفعل فسادها، فهذه هي
الدولة الرومانية التي ضرب فيها الفساد بمعوله، يعمها الفساد، فصارت
الدولة تنهب أموال رعاياها المساكين عن طريق الضرائب المتنوعة حتى على
الأموات، وتُجيع أهل مستعمراتها ليطعموا أهل العاصمة من قمحهم وغَلاّتهم.
هذه الدولة سقطت سقوطًا مريعًا، ولم تستطع أن تستمر؛ لأن الفساد أسقط أركانها.
أما الدولة الفارسية، فقد بلغ سيل الفساد فيها الزُّبي، وأخذ كسرى
يجمع من الأموال والمتاع ما لا يتخيله بشر، وكان أمراؤه وقادته ينهبون ما
شاؤوا من رعيتهم، ولا يجسر أحدٌ على التعرُّض لهم، ولكل هذا لم تستطع تلك
الدولة الصمود أمام الجيوش الإسلامية التي تحلَّت بالتقوى والصلاح، فانهار
بنيان الدولة الفارسية وهرب ملكها، وتفرقت جيوشها، ولم تقم لها قائمة مرةً
أخرى حتى اليوم.
وهذه السنة الإلهية لا تستثنى أحدًا، ولا تحابي أحدًا حتى لو كان
مسلمًا؛ لذا فعندما انتشر الفسادُ انتشارًا سريعًا قبل الحروب الصليبية؛
سقطت إمارات الشام الممزقة بأيدي الصليبيين، ولجأ الأمراء الفاسدون إلى
الصليبيين يضعون أيديهم في أيديهم ضد إخوانهم المسلمين.
وعندما تكرر الأمر، وانتشر الفساد بين المسئولين في الخلافة
العباسية، وصار الأمراء والخليفة يغترفون من خزائن بيت مال المسلمين دون
وجه حق، جاء طوفان التتار فقضى على هؤلاء وذبحهم، وأسقط الخلافة.
ومن العجيب أن تكون أحوال العالم العربي هكذا رغم حرص الرسول
صلى الله عليه وسلم
على محاربة الفساد، ولو في بداياته وأبسط صوره؛ فيروي البخاري عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قال:
اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا عَلَى
صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ؛ فَلَمَّا جَاءَ
حَاسَبَهُ؛ قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
: "فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا"، ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا
بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا
وَلَّانِي اللَّهُ؛ فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا
هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي. أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ
حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ. وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ
شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ
بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً
تَيْعَرُ"، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ:
"اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟". بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي.....
هكذا وبكل وضوح يستنكر الرسول صلى الله عليه وسلم
أن تصير المسئولية سبيلاً للإثراء غير المشروع.
إن انصلاح حال الأمة الإسلامية رهين بالعودة إلى الأصول التي وضعها
الإسلام، ومن هذه الأصول؛ طهارة اليد؛ حيث ينبغي أن يحرص كل مسلم على أن
يكون ماله حلالاً لا شبهة فيه، ومن هذه الأصول أيضًا محاسبة الفاسد
وعقابه، وقد رأينا ذلك الوزير الفاسد الذي انتحر خوفًا من مواجهة عقاب
المجتمع لتورطه في فضيحة مالية - وليس في استيراد مبيدات مسرطنة غرست
المرض الخبيث في أجساد مئات الآلاف من رعيته، وليس في استيراد شتلات
فاسدة، أو غيرها من المحاصيل التي أفشلت كُلَى الآلاف من المواطنين.
لابد أن يكون عقاب الفاسدين شديدًا، لكي ترتدع نفوسهم عن الفساد ومع ذلك فإننا لا ندعو المسؤولين العرب للانتحار
عند ظهور فسادهم؛ لأن هذا الأمر يعني فقدنا لغالب المسئولين في العالم العربي!!!
مسئول!!
بقلم الدكتور راغب السرجانى
ولم يكن سبب تلك الفجيعة هو الصدمة من تورط وزيرٍ في فضيحة، ولكن
السبب هو اختلاف منهج العرب في مواجهة الفساد عن منهج اليابانيين،
فاليابانيون لا يرحمون الفاسدين، ولا يتهاونون مع الفساد؛ بل يضربون على
أيدي كل من يخون الأمانة، ولا يسمحون له أن ينعم بفساده، أو أن يفَّر به.
إن نظرة المجتمع الياباني للمسؤول الفاسد نظرة شديدة الاحتقار؛ لذا
فإن من يتورط من المسئولين في أي فضيحة يعلم أنه قد جاء كبيرة من الكبائر
بالنسبة لمجتمعه؛ ومن ثَمَّ فإنه لا يجرؤ على تخيل الحياة وسط هذا المجتمع
مرة أخرى، بينما تتراوح نظرة المجتمع العربي - في عمومه - بين السلبية؛
حيث إنه لا يستطيع محاسبة ذلك المسؤول - وبين الإعجاب المفضي للتقليد؛
تمامًا كما صوَّر الشاعر ذلك الوضع بقوله:
إذا كان رَبُّ البيتِ بالدُّفِّ ضاربًا فشيمةُ أهلِ البيتِ كلِّهم الرقصُ
ولا شك أن منهج اليابان في مقاومة الفساد هو أحد أسباب تفوقها على
الأمم، وهذه سنة إلهية لا تتخلف ولا تتبدل، كما أنه لا شك في أن تهاون
العالم العربي مع الفساد والفاسدين من أهم أسباب تخلُّفه، ففي العالم
العربي حيث يرتع الفاسدون، يصبح الفساد هو القاعدة، والصلاح والطهارة هما
الاستثناء، ويتبجح الفاسد بفساده؛ حيث يدرك أنه لن يحاسبه أحد.
إن ما أصاب العالم العربي من فسادٍ شديدٍ نخر في عظامه كان كفيلًا
بأن يصبح العالم العربي في ذيل دول العالم من حيث الصلاح والشفافية، ويشهد
على ذلك تقرير الشفافية الدولية لعام 2006م؛ حيث جاءت أولى الدول العربية
في المركز الحادي والثلاثين على مستوى العالم من حيث الشفافية وهي دولة
الإمارات العربية بدرجة (6.2) من عشرة وهي كما نلاحظ درجة متدنية للغاية،
بينما حصل أغلب الدول العربية على أقل من خمس درجات، وهي درجة تبين كيف
استشرى الفساد في البلاد العربية، وما ذلك إلا لشيوع التستر على الفساد في
هذه الدول.
إن التاريخ ليشهد على سقوط الأمم الفاسدة بفعل فسادها، فهذه هي
الدولة الرومانية التي ضرب فيها الفساد بمعوله، يعمها الفساد، فصارت
الدولة تنهب أموال رعاياها المساكين عن طريق الضرائب المتنوعة حتى على
الأموات، وتُجيع أهل مستعمراتها ليطعموا أهل العاصمة من قمحهم وغَلاّتهم.
هذه الدولة سقطت سقوطًا مريعًا، ولم تستطع أن تستمر؛ لأن الفساد أسقط أركانها.
أما الدولة الفارسية، فقد بلغ سيل الفساد فيها الزُّبي، وأخذ كسرى
يجمع من الأموال والمتاع ما لا يتخيله بشر، وكان أمراؤه وقادته ينهبون ما
شاؤوا من رعيتهم، ولا يجسر أحدٌ على التعرُّض لهم، ولكل هذا لم تستطع تلك
الدولة الصمود أمام الجيوش الإسلامية التي تحلَّت بالتقوى والصلاح، فانهار
بنيان الدولة الفارسية وهرب ملكها، وتفرقت جيوشها، ولم تقم لها قائمة مرةً
أخرى حتى اليوم.
وهذه السنة الإلهية لا تستثنى أحدًا، ولا تحابي أحدًا حتى لو كان
مسلمًا؛ لذا فعندما انتشر الفسادُ انتشارًا سريعًا قبل الحروب الصليبية؛
سقطت إمارات الشام الممزقة بأيدي الصليبيين، ولجأ الأمراء الفاسدون إلى
الصليبيين يضعون أيديهم في أيديهم ضد إخوانهم المسلمين.
وعندما تكرر الأمر، وانتشر الفساد بين المسئولين في الخلافة
العباسية، وصار الأمراء والخليفة يغترفون من خزائن بيت مال المسلمين دون
وجه حق، جاء طوفان التتار فقضى على هؤلاء وذبحهم، وأسقط الخلافة.
ومن العجيب أن تكون أحوال العالم العربي هكذا رغم حرص الرسول
صلى الله عليه وسلم
على محاربة الفساد، ولو في بداياته وأبسط صوره؛ فيروي البخاري عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قال:
اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا عَلَى
صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ؛ فَلَمَّا جَاءَ
حَاسَبَهُ؛ قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
: "فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا"، ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا
بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا
وَلَّانِي اللَّهُ؛ فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا
هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي. أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ
حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ. وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ
شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ
بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً
تَيْعَرُ"، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ:
"اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟". بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي.....
هكذا وبكل وضوح يستنكر الرسول صلى الله عليه وسلم
أن تصير المسئولية سبيلاً للإثراء غير المشروع.
إن انصلاح حال الأمة الإسلامية رهين بالعودة إلى الأصول التي وضعها
الإسلام، ومن هذه الأصول؛ طهارة اليد؛ حيث ينبغي أن يحرص كل مسلم على أن
يكون ماله حلالاً لا شبهة فيه، ومن هذه الأصول أيضًا محاسبة الفاسد
وعقابه، وقد رأينا ذلك الوزير الفاسد الذي انتحر خوفًا من مواجهة عقاب
المجتمع لتورطه في فضيحة مالية - وليس في استيراد مبيدات مسرطنة غرست
المرض الخبيث في أجساد مئات الآلاف من رعيته، وليس في استيراد شتلات
فاسدة، أو غيرها من المحاصيل التي أفشلت كُلَى الآلاف من المواطنين.
لابد أن يكون عقاب الفاسدين شديدًا، لكي ترتدع نفوسهم عن الفساد ومع ذلك فإننا لا ندعو المسؤولين العرب للانتحار
عند ظهور فسادهم؛ لأن هذا الأمر يعني فقدنا لغالب المسئولين في العالم العربي!!!
مسئول!!
بقلم الدكتور راغب السرجانى