التجربة الموريتانية
مخلص الصيادي
الآن وقد اكتمل الانتقال إلى الديمقراطية في موريتانيا، صار ممكنا الحديث عن التجربة الموريتانية دون الخشية من وجود خديعة أعدها العسكريون، ودون التحسب من قيود أو حدود قد توضع في مسار هذا التحول.
وإذا كان من الواجب أن نثبت بداية أن موريتانيا قدمت نموذجا جديدا في التحول إلى الديمقراطية، وطريقا غير مسبوق في إعادة السلطة إلى الشعب، وفي المحافظة على الصلة الوثيقة بين الناس والسياسة، بل وتدعيم هذه الصلة وجعلها مما يجب احترامه وصيانته وحمايته.
وإذا كانت العسكرية الموريتانية قد اكتسبت هذا الشرف وسجلت لنفسها ولبلدها هذا السبق الذي ساهمت فيه كل القوى الموريتانية حينما تمسكت بالطريق الديمقراطي، وعززت العودة إليه، وفرقت بين الصراعات داخل الوطن واختلاف المناهج بين القوى والأحزاب والتجمعات، وبين المنهج الضابط الذي يجب على الجميع أن يتبعوه وأن يلتزموا نتائجه، وأن يناضلوا في إطار ما يتيحه من إمكانيات التغيير وحدوده، فإن من الضروري أن نفهم تماما هذا النموذج الموريتاني وأن ندرك حقيقة ما قدمه للشعب الموريتاني وللأمة العربية، بل وللكثير من دول العالم.
1ـ أول ما يجب الانتباه إليه هو أن الذي فتح هذا الطريق للتغيير هو القوة العسكرية، أي أن التغيير انطلق من القوة التي كانت هي الأداة في الإمساك بالسلطة، وكانت الجهاز الذي مكن السلطات الدكتاتورية السابقة من الاستمرار.
"
قرار الجيش عدم المشاركة في العملية السياسية قطع الطريق على المتسلقين ووضع العسكر في أفضل موضع ليكون حارسا حقيقيا للتحول، ومكنه من حرية توفير ورعاية كل الضمانات الممكنة ليكون هذا التحول شفافا وحقيقيا
"
فهل يمكن اعتبار ما فعله العقيد أعلي ولد محمد فال ورفاقه نوعا من انقلاب القصر؟
هذا أول ما يتبادر للذهن من أسئلة ونحن ندقق في النموذج الموريتاني، لكن نتائج تدخل العسكريين، أي نتائج انقلاب أعلي ولد محمد فال، لم تكن نقل السلطة إلى وجوه جديدة، وإنما إلغاء آليات في العمل أقصت الإرادة الشعبية عن السلطة، واعتماد آليات جديدة تعيد ربط السلطة بالإرادة الشعبية.
تعبير انقلاب القصر عرفنا نماذجه، ومن أحدث هذه النماذج ما فعله الرئيس التونسي الحالي زين العابدين بن علي مع الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، وهناك أمثلة عديدة أخرى من نفس الطابع.
2ـ الذي جعل التغيير العسكري هو الطريق لإعادة السلطة إلى الناس هو انسداد الطرق الأخرى، إذ استمرأ النظام السابق لعبة الديمقراطية الشكلية، والتزوير لإرادة الناخبين، والسيطرة على مراكز التأثير والتوجيه من خلال أجهزة العنف والإفساد المالي، واستطاع باستخدام مختلف الأساليب أن يحبط كل محاولات الانقلاب العسكرية على حكمه والتي ناهضت سياساته وانحيازاته.
لقد قمع كل تحرك بالعنف والدم، لكن ما هو ملاحظ أن هذه المحاولات لم تتوقف، وأن المقاومة الشعبية لدكتاتورية معاوية ولد الطايع لم تهدأ، وأن مجمل القوى السياسية في موريتانيا كانت تشارك في النظرة إلى لا شرعية النظام القائم وإلى ضرورة تغييره.
3ـ إن التغيير الذي قاده العسكريون لم يكن تغييرا ذا طابع اجتماعي أو سياسي أو عقدي، ولم يكن تعبيرا عن احتجاج على سياسات معينة، وقد بدا هذا للوهلة الأولى عنصر ضعف فيما قام به العسكريون، لكن -والحق يقال- كان هذا الموقف عنصر قوة وحصانة وحصافة، إذ مكن من إعادة السلطة إلى الشعب بأقل ضجيج ممكن وبأقل استعداء محتمل.
إن المدقق في المسيرة الانتقالية سيدرك أن همّ العسكريين لم يكن تعديل سياسات النظام السابق، لم يكن الكشف عن الفساد ورجالاته، لم يكن قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، أو إعادة النظر في العلاقات مع الولايات المتحدة، لم يكن تحديد الموقف من ثروة البلاد الصاعدة "البترول"، ولو كان هذا هو الهم، وهذا هو مدار الاهتمام، لوجدوا قوى سياسية واجتماعية في المجتمع الموريتاني ترحب وتعزز هذا التوجه.
وقد تكون قوى كبيرة ورئيسية، وقد تغريهم بالبقاء في السلطة لتوكيد وتعزيز هذه الخيارات، لكنهم سيجدون كذلك قوى تعارض هذا التحول جزئيا أو كليا، وتعمل على التصدي له والتآمر عليه.
وفي كل الأحوال لم يكونوا قد أحدثوا تغييرا حقيقيا في معايير التقرير واتخاذ المواقف، لأن نظام معاوية ولد الطايع ونقيضه الذي كان يمكن أن يأتي به العسكريون متحدان في أنهما يتكلمان نيابة عن الشعب، وبديلا عنه، بغض النظر عن صحة ما يقومان به أو خطأه، وعن صدق ما يقومان به أو كذبه.
"
التجربة الموريتانية سبيل يمكن انتهاجه في دول عربية انسدت فيها إمكانيات التغيير الديمقراطي السلمي، والعديد من بلادنا قد وصل إلى تلك المرحلة "
لقد اختار العسكريون أن يغيروا في منهج التعاطي مع الناس، ورأوا أن إعادة السلطة للناس، للشعب، للإرادة الحرة للمواطنين، لجموع القوى السياسية في الوطن، هو الطريق لإحداث تغيير حقيقي، وحين يتحقق هذا التغيير فإن الشارع السياسي وقواه هم الذين يحمون ويرعون ويقدرون أي تغيير.
4ـ هذا التغيير، هذه الطريقة في التفكير والعمل، حققت مصداقيتها من خلال سلوك العسكريين على مدى المرحلة الانتقالية كلها، وقد يكفي أن نقول إن الانتخابات النيابية ثم الرئاسية جرت بشفافية، ودون تلاعب يعيبها، وأن نتيجتها جاءت أكثر تمثيلا للإرادة الشعبية الواعية.
لكن مرة أخرى يكشف التدقيق في مسيرة العسكر في هذه المرحلة أن المصداقية على جدية هذا التحول لم تتحقق في هذه الصورة فحسب وإنما من خلال إنجازات أخرى كان أهمها إنجازان اثنان.
الأول امتناع العسكريين الذين قادوا الانقلاب على نظام ولد الطايع عن المشاركة في العملية السياسية، مما وفر أساسا ضروريا لبناء الثقة بين عسكر القصر وقوى المجتمع الموريتاني المتطلعة إلى التغيير.
وليس لهذا القرار أي صلة بمشاركة العسكريين أو عدم مشاركتهم في العمل السياسي الوطني، إذ العسكريون جزء من أبناء الوطن، ومن حقهم أن يشاركوا في خياراته السياسية والاجتماعية، ويحدد الدستور وحده سبل هذه المشاركة.
لكن امتناع عسكر القصر الذين قادوا الانقلاب قطع الطريق على بيروقراطية الدولة، وعلى المستفيدين من النظام السابق ومرتزقته من أن يشكلوا إغراء لا شك فيه لهؤلاء العسكر في وضع أجهزة الدولة وإمكانياتها لهدف وصولهم "ديمقراطيا" إلى السلطة، وحين يتم ذلك يكون ما حدث، وما قاموا به مجرد "انقلاب قصر".
لقد قطع قرارهم بعدم المشاركة في العملية السياسية الطريق على مثل هذا الاحتمال، وبالتالي وضعهم جميعا في أفضل موضع ممكن ليكونوا حراسا حقيقيين لهذا التحول، ومكنهم من حرية توفير ورعاية كل الضمانات الممكنة ليكون هذا التحول شفافا، حقيقيا.
الإنجاز الثاني رعاية حوار وطني واسع المدى حول حقوق المعارضة والضمانات المتوفرة لها، وهو حوار أثمر في ختام المطاف وثيقة لا سابق لها في محيطنا، وثيقة تعطي بحكم القانون وضعا للمعارضة لا يمكن التعدي عليه ولا تجاوزه، تعطيها المكانة والمعلومة والقدرة على أن تمارس دورها باعتبارها "السلطة القادمة".
وهذه الوثيقة تفتح أمام المعارضة كذلك، بحكم القانون، وسائل الإعلام العمومية لتعبر عن رأيها ومواقفها، فلا تبقى هذه الوسائل حكومية تسيطر عليها الأغلبية الحاكمة.
ونحن نعلم أن أخطر ما يصيب قوى المعارضة هو استغلال السلطات الحاكمة لوسائل الإعلام الحكومية في تحركها، واستغلال أجهزة الدولة لمصلحتها، واستغلال معلومات الدولة واستثمارها في دعم سيطرتها، وهذه كلها من وسائل القوة التي تضاف إلى السلطات الحاكمة.
وقد وفر مشروع القانون الجديد الذي ينتظر أن يقره البرلمان هذه المجالات للمعارضة بعدما أعطى زعيمها مكانة وصفة فاعلة.
وإذا أضفنا إلى هذا الإنجاز وجود قضاء حر ومستقل فإنه يكون قد تحققت للمجتمع الموريتاني الظروف الطبيعية للممارسة الديمقراطية.
وقد حرص المجلس العسكري على أن يصدر هذه الوثيقة قبل الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية.
وقبل أن نختم حديثنا عن التجربة الموريتانية لا بد من الوقوف عند فكرتين أراهما مهمتين.
الفكرة الأولى هي أن هذه التجربة لا تعني أبدا أن تزويرا لا يمكن أن يقع في الانتخابات، أو في سبل ممارسة الديمقراطية، ولا تنفي أبدا أن بعض العسكر قد يحاولون العودة إلى أسلوب الانقلابات للسيطرة على الحكم، ولا تعني أبدا أن قوى بعينها لن تستخدم مختلف الأساليب لإفساد الحياة السياسية، كاستخدام المال في الانتخابات.
لكن هذه التجربة تعني أن القوى السياسية الموريتانية صار بإمكانها أن تقوم كل أخطاء وانحرافات ممكنة بالعمل الديمقراطي، وأن حماية هذا النهج صارت وظيفة الموريتانيين جميعهم، وأن التصدي الشعبي لأي محاولة عسكرية للعودة إلى الوراء يرقى إلى مستوى الجهاد الذي يردع كل مستبد وطاغية.
"
موريتانيا أعطت أنموذجا وقدمت حلا، وقالت للجميع إن هناك طريقا للتغيير لا يستبعد أحدا ولا يهدر أي طاقة ولا قوة.. وعلى الجميع أن ينظر ويرى ويدرك ثم يكتشف طرق الإفادة من هذا الذي تحقق
"
أما الفكرة الثانية فتتصل بإمكانية أن تكون التجربة الموريتانية سبيلا يمكن انتهاجه في دول عربية انسدت فيها إمكانيات التغيير الديمقراطي السلمي، وهذه الفكرة هنا ملحة لأن العديد من بلادنا قد وصلت إلى مرحلة أغلقت فيها كل منافذ وسبل التغيير الديمقراطي، على الرغم من تمسك المعارضة وإصرارها في مختلف هذه البلدان على الأسلوب الديمقراطي في التغيير، ورفضها التغيير بآلية الانقلابات العسكرية.
وتلك الفكرة فيها الكثير من الإغراء لأن هذا النموذج الموريتاني استطاع أن يجنب الوطن مخاطر التحول أو التغيير العنيف الذي تبقى جراحاته لمدة طويلة، ومن شأنه أن يسفر عن اختلال داخلي وهجرة وضياع الكثير من طاقات الأمة المادية والبشرية.
وهذه الفكرة تقدم حلا نموذجيا لعودة الجيش وأجهزته -وهو من أهم قطاعات المجتمع- إلى وظيفته الأساسية في حماية الوطن، وفي تمثيله وحدة الوطن وأبناءه، بعد أن أقصي طويلا عن هذه المهمة، وصار كأنه عبء على حرية الوطن والمواطن، وعلى تطور الحياة السياسية ديمقراطيا.
لكن القضية ليست في أهمية هذا النموذج الموريتاني، وإنما في إمكانية انتقاله وتحققه في غير هذا البلد، أو في الأقاليم العربية الرئيسية التي سدت فيها سبل التغيير الديمقراطي.
كما أن القضية في أن ظروف هذه الأقاليم قد لا تكشف إمكان مثل هذا الحل، بل إنها قد ترجح حصول تغيير من قبيل انقلابات القصر التي لا تعدو أن تكون تبديل حاكم مستبد بآخر، وتبديل طبقة فاسدة بأخرى.
وهذا ما يجعل قوى المعارضة الشعبية أكثر تمسكا بدعوات التغيير الديمقراطي، رغم أن الأنظمة القائمة لم تترك لمثل هذه الدعوات بصيص أمل ولا أفقا حقيقيا ولو على مدى بعيد.
على كل حال فإن موريتانيا أعطت أنموذجا وقدمت حلا، وقالت للجميع إن هناك طريقا للتغيير لا يستبعد أحدا، ولا يهدر أي طاقة ولا قوة.
قد نكون جميعا فوجئنا بهذا الإنجاز، لكن موريتانيا فعلتها، ونِعمَ ما فعلت، وعلى الجميع أن ينظر ويرى ويدرك ثم يكتشف طرق الإفادة من هذا الذي تحقق.
__________________
كاتب سوري
المصدر: الجزيرة
مخلص الصيادي
الآن وقد اكتمل الانتقال إلى الديمقراطية في موريتانيا، صار ممكنا الحديث عن التجربة الموريتانية دون الخشية من وجود خديعة أعدها العسكريون، ودون التحسب من قيود أو حدود قد توضع في مسار هذا التحول.
وإذا كان من الواجب أن نثبت بداية أن موريتانيا قدمت نموذجا جديدا في التحول إلى الديمقراطية، وطريقا غير مسبوق في إعادة السلطة إلى الشعب، وفي المحافظة على الصلة الوثيقة بين الناس والسياسة، بل وتدعيم هذه الصلة وجعلها مما يجب احترامه وصيانته وحمايته.
وإذا كانت العسكرية الموريتانية قد اكتسبت هذا الشرف وسجلت لنفسها ولبلدها هذا السبق الذي ساهمت فيه كل القوى الموريتانية حينما تمسكت بالطريق الديمقراطي، وعززت العودة إليه، وفرقت بين الصراعات داخل الوطن واختلاف المناهج بين القوى والأحزاب والتجمعات، وبين المنهج الضابط الذي يجب على الجميع أن يتبعوه وأن يلتزموا نتائجه، وأن يناضلوا في إطار ما يتيحه من إمكانيات التغيير وحدوده، فإن من الضروري أن نفهم تماما هذا النموذج الموريتاني وأن ندرك حقيقة ما قدمه للشعب الموريتاني وللأمة العربية، بل وللكثير من دول العالم.
1ـ أول ما يجب الانتباه إليه هو أن الذي فتح هذا الطريق للتغيير هو القوة العسكرية، أي أن التغيير انطلق من القوة التي كانت هي الأداة في الإمساك بالسلطة، وكانت الجهاز الذي مكن السلطات الدكتاتورية السابقة من الاستمرار.
"
قرار الجيش عدم المشاركة في العملية السياسية قطع الطريق على المتسلقين ووضع العسكر في أفضل موضع ليكون حارسا حقيقيا للتحول، ومكنه من حرية توفير ورعاية كل الضمانات الممكنة ليكون هذا التحول شفافا وحقيقيا
"
فهل يمكن اعتبار ما فعله العقيد أعلي ولد محمد فال ورفاقه نوعا من انقلاب القصر؟
هذا أول ما يتبادر للذهن من أسئلة ونحن ندقق في النموذج الموريتاني، لكن نتائج تدخل العسكريين، أي نتائج انقلاب أعلي ولد محمد فال، لم تكن نقل السلطة إلى وجوه جديدة، وإنما إلغاء آليات في العمل أقصت الإرادة الشعبية عن السلطة، واعتماد آليات جديدة تعيد ربط السلطة بالإرادة الشعبية.
تعبير انقلاب القصر عرفنا نماذجه، ومن أحدث هذه النماذج ما فعله الرئيس التونسي الحالي زين العابدين بن علي مع الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، وهناك أمثلة عديدة أخرى من نفس الطابع.
2ـ الذي جعل التغيير العسكري هو الطريق لإعادة السلطة إلى الناس هو انسداد الطرق الأخرى، إذ استمرأ النظام السابق لعبة الديمقراطية الشكلية، والتزوير لإرادة الناخبين، والسيطرة على مراكز التأثير والتوجيه من خلال أجهزة العنف والإفساد المالي، واستطاع باستخدام مختلف الأساليب أن يحبط كل محاولات الانقلاب العسكرية على حكمه والتي ناهضت سياساته وانحيازاته.
لقد قمع كل تحرك بالعنف والدم، لكن ما هو ملاحظ أن هذه المحاولات لم تتوقف، وأن المقاومة الشعبية لدكتاتورية معاوية ولد الطايع لم تهدأ، وأن مجمل القوى السياسية في موريتانيا كانت تشارك في النظرة إلى لا شرعية النظام القائم وإلى ضرورة تغييره.
3ـ إن التغيير الذي قاده العسكريون لم يكن تغييرا ذا طابع اجتماعي أو سياسي أو عقدي، ولم يكن تعبيرا عن احتجاج على سياسات معينة، وقد بدا هذا للوهلة الأولى عنصر ضعف فيما قام به العسكريون، لكن -والحق يقال- كان هذا الموقف عنصر قوة وحصانة وحصافة، إذ مكن من إعادة السلطة إلى الشعب بأقل ضجيج ممكن وبأقل استعداء محتمل.
إن المدقق في المسيرة الانتقالية سيدرك أن همّ العسكريين لم يكن تعديل سياسات النظام السابق، لم يكن الكشف عن الفساد ورجالاته، لم يكن قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، أو إعادة النظر في العلاقات مع الولايات المتحدة، لم يكن تحديد الموقف من ثروة البلاد الصاعدة "البترول"، ولو كان هذا هو الهم، وهذا هو مدار الاهتمام، لوجدوا قوى سياسية واجتماعية في المجتمع الموريتاني ترحب وتعزز هذا التوجه.
وقد تكون قوى كبيرة ورئيسية، وقد تغريهم بالبقاء في السلطة لتوكيد وتعزيز هذه الخيارات، لكنهم سيجدون كذلك قوى تعارض هذا التحول جزئيا أو كليا، وتعمل على التصدي له والتآمر عليه.
وفي كل الأحوال لم يكونوا قد أحدثوا تغييرا حقيقيا في معايير التقرير واتخاذ المواقف، لأن نظام معاوية ولد الطايع ونقيضه الذي كان يمكن أن يأتي به العسكريون متحدان في أنهما يتكلمان نيابة عن الشعب، وبديلا عنه، بغض النظر عن صحة ما يقومان به أو خطأه، وعن صدق ما يقومان به أو كذبه.
"
التجربة الموريتانية سبيل يمكن انتهاجه في دول عربية انسدت فيها إمكانيات التغيير الديمقراطي السلمي، والعديد من بلادنا قد وصل إلى تلك المرحلة "
لقد اختار العسكريون أن يغيروا في منهج التعاطي مع الناس، ورأوا أن إعادة السلطة للناس، للشعب، للإرادة الحرة للمواطنين، لجموع القوى السياسية في الوطن، هو الطريق لإحداث تغيير حقيقي، وحين يتحقق هذا التغيير فإن الشارع السياسي وقواه هم الذين يحمون ويرعون ويقدرون أي تغيير.
4ـ هذا التغيير، هذه الطريقة في التفكير والعمل، حققت مصداقيتها من خلال سلوك العسكريين على مدى المرحلة الانتقالية كلها، وقد يكفي أن نقول إن الانتخابات النيابية ثم الرئاسية جرت بشفافية، ودون تلاعب يعيبها، وأن نتيجتها جاءت أكثر تمثيلا للإرادة الشعبية الواعية.
لكن مرة أخرى يكشف التدقيق في مسيرة العسكر في هذه المرحلة أن المصداقية على جدية هذا التحول لم تتحقق في هذه الصورة فحسب وإنما من خلال إنجازات أخرى كان أهمها إنجازان اثنان.
الأول امتناع العسكريين الذين قادوا الانقلاب على نظام ولد الطايع عن المشاركة في العملية السياسية، مما وفر أساسا ضروريا لبناء الثقة بين عسكر القصر وقوى المجتمع الموريتاني المتطلعة إلى التغيير.
وليس لهذا القرار أي صلة بمشاركة العسكريين أو عدم مشاركتهم في العمل السياسي الوطني، إذ العسكريون جزء من أبناء الوطن، ومن حقهم أن يشاركوا في خياراته السياسية والاجتماعية، ويحدد الدستور وحده سبل هذه المشاركة.
لكن امتناع عسكر القصر الذين قادوا الانقلاب قطع الطريق على بيروقراطية الدولة، وعلى المستفيدين من النظام السابق ومرتزقته من أن يشكلوا إغراء لا شك فيه لهؤلاء العسكر في وضع أجهزة الدولة وإمكانياتها لهدف وصولهم "ديمقراطيا" إلى السلطة، وحين يتم ذلك يكون ما حدث، وما قاموا به مجرد "انقلاب قصر".
لقد قطع قرارهم بعدم المشاركة في العملية السياسية الطريق على مثل هذا الاحتمال، وبالتالي وضعهم جميعا في أفضل موضع ممكن ليكونوا حراسا حقيقيين لهذا التحول، ومكنهم من حرية توفير ورعاية كل الضمانات الممكنة ليكون هذا التحول شفافا، حقيقيا.
الإنجاز الثاني رعاية حوار وطني واسع المدى حول حقوق المعارضة والضمانات المتوفرة لها، وهو حوار أثمر في ختام المطاف وثيقة لا سابق لها في محيطنا، وثيقة تعطي بحكم القانون وضعا للمعارضة لا يمكن التعدي عليه ولا تجاوزه، تعطيها المكانة والمعلومة والقدرة على أن تمارس دورها باعتبارها "السلطة القادمة".
وهذه الوثيقة تفتح أمام المعارضة كذلك، بحكم القانون، وسائل الإعلام العمومية لتعبر عن رأيها ومواقفها، فلا تبقى هذه الوسائل حكومية تسيطر عليها الأغلبية الحاكمة.
ونحن نعلم أن أخطر ما يصيب قوى المعارضة هو استغلال السلطات الحاكمة لوسائل الإعلام الحكومية في تحركها، واستغلال أجهزة الدولة لمصلحتها، واستغلال معلومات الدولة واستثمارها في دعم سيطرتها، وهذه كلها من وسائل القوة التي تضاف إلى السلطات الحاكمة.
وقد وفر مشروع القانون الجديد الذي ينتظر أن يقره البرلمان هذه المجالات للمعارضة بعدما أعطى زعيمها مكانة وصفة فاعلة.
وإذا أضفنا إلى هذا الإنجاز وجود قضاء حر ومستقل فإنه يكون قد تحققت للمجتمع الموريتاني الظروف الطبيعية للممارسة الديمقراطية.
وقد حرص المجلس العسكري على أن يصدر هذه الوثيقة قبل الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية.
وقبل أن نختم حديثنا عن التجربة الموريتانية لا بد من الوقوف عند فكرتين أراهما مهمتين.
الفكرة الأولى هي أن هذه التجربة لا تعني أبدا أن تزويرا لا يمكن أن يقع في الانتخابات، أو في سبل ممارسة الديمقراطية، ولا تنفي أبدا أن بعض العسكر قد يحاولون العودة إلى أسلوب الانقلابات للسيطرة على الحكم، ولا تعني أبدا أن قوى بعينها لن تستخدم مختلف الأساليب لإفساد الحياة السياسية، كاستخدام المال في الانتخابات.
لكن هذه التجربة تعني أن القوى السياسية الموريتانية صار بإمكانها أن تقوم كل أخطاء وانحرافات ممكنة بالعمل الديمقراطي، وأن حماية هذا النهج صارت وظيفة الموريتانيين جميعهم، وأن التصدي الشعبي لأي محاولة عسكرية للعودة إلى الوراء يرقى إلى مستوى الجهاد الذي يردع كل مستبد وطاغية.
"
موريتانيا أعطت أنموذجا وقدمت حلا، وقالت للجميع إن هناك طريقا للتغيير لا يستبعد أحدا ولا يهدر أي طاقة ولا قوة.. وعلى الجميع أن ينظر ويرى ويدرك ثم يكتشف طرق الإفادة من هذا الذي تحقق
"
أما الفكرة الثانية فتتصل بإمكانية أن تكون التجربة الموريتانية سبيلا يمكن انتهاجه في دول عربية انسدت فيها إمكانيات التغيير الديمقراطي السلمي، وهذه الفكرة هنا ملحة لأن العديد من بلادنا قد وصلت إلى مرحلة أغلقت فيها كل منافذ وسبل التغيير الديمقراطي، على الرغم من تمسك المعارضة وإصرارها في مختلف هذه البلدان على الأسلوب الديمقراطي في التغيير، ورفضها التغيير بآلية الانقلابات العسكرية.
وتلك الفكرة فيها الكثير من الإغراء لأن هذا النموذج الموريتاني استطاع أن يجنب الوطن مخاطر التحول أو التغيير العنيف الذي تبقى جراحاته لمدة طويلة، ومن شأنه أن يسفر عن اختلال داخلي وهجرة وضياع الكثير من طاقات الأمة المادية والبشرية.
وهذه الفكرة تقدم حلا نموذجيا لعودة الجيش وأجهزته -وهو من أهم قطاعات المجتمع- إلى وظيفته الأساسية في حماية الوطن، وفي تمثيله وحدة الوطن وأبناءه، بعد أن أقصي طويلا عن هذه المهمة، وصار كأنه عبء على حرية الوطن والمواطن، وعلى تطور الحياة السياسية ديمقراطيا.
لكن القضية ليست في أهمية هذا النموذج الموريتاني، وإنما في إمكانية انتقاله وتحققه في غير هذا البلد، أو في الأقاليم العربية الرئيسية التي سدت فيها سبل التغيير الديمقراطي.
كما أن القضية في أن ظروف هذه الأقاليم قد لا تكشف إمكان مثل هذا الحل، بل إنها قد ترجح حصول تغيير من قبيل انقلابات القصر التي لا تعدو أن تكون تبديل حاكم مستبد بآخر، وتبديل طبقة فاسدة بأخرى.
وهذا ما يجعل قوى المعارضة الشعبية أكثر تمسكا بدعوات التغيير الديمقراطي، رغم أن الأنظمة القائمة لم تترك لمثل هذه الدعوات بصيص أمل ولا أفقا حقيقيا ولو على مدى بعيد.
على كل حال فإن موريتانيا أعطت أنموذجا وقدمت حلا، وقالت للجميع إن هناك طريقا للتغيير لا يستبعد أحدا، ولا يهدر أي طاقة ولا قوة.
قد نكون جميعا فوجئنا بهذا الإنجاز، لكن موريتانيا فعلتها، ونِعمَ ما فعلت، وعلى الجميع أن ينظر ويرى ويدرك ثم يكتشف طرق الإفادة من هذا الذي تحقق.
__________________
كاتب سوري
المصدر: الجزيرة